الرئيسية » عالم الاقتصاد والمال
مياة ميناء "المرسى"

العيون ـ هشام المدراوي

يعتبر ميناء "المرسى"، الذي يقع على بعد 25 كيلومترًا عن محافظة العيون، حاضرة الصحراء المغربية، أهم الموانئ في الأقاليم الجنوبية، نظرًا لثقله الاقتصادي، وأهمية موقعه الجغرافي، وذلك بحكم انفتاحه على جزر الكناري من جهة، وعلى العمق الأفريقي من جهة ثانية، إلا أنَّ كل تلك الامتيازات لم تشفع له لدى المسؤولين من أجل إيلاء الاهتمام به، ومحاولة تطوير آليات العمل داخله، الشيء الذي أدخله في مرحلة طويلة من النسيان والتهميش، كما صار مرتعًا لمجموعة من الممارسات غير السوية، ومحاجًا لمجموعة من المهاجرين السريين، الطامحين لبلوغ الضفة الأخرى عبر جزر الكناري.
ويستوقفك، في أقصى الجهة الشمالية الغربية من ميناء المرسى، منظر العشرات من "الحراكة"، الذين جعلوا من ميناء المرسى موطناً لهم بعد أن ضاقت بهم الدنيا، ولم يجدوا بديلاً، من أجل الانعتاق من الوضعية المزرية التي يعيشون على وقعها سوى خوض غمار هذه المغامرة، جاعلين من الأحجار الضخمة التي تؤثث فضاء المرسى  مسكناً موقتاً لهم، حيث يكفيك الحضور في ساعات مبكرة من الصباح وتتجول بين كل تلك الأحجار التي تم وضعها بعناية فائقة على جنبات الجهة الشمالية الغربية من الميناء لتجد العشرات من المرشحين للهجرة السرية وهم نيام بطريقة تثير كثيرًا من الشفقة، بعضهم امتد تواجده في هذا المكان لأكثر من ستة أشهر، والبعض الأخر حديث التواجد بهذا المكان، جسده هنا، وأنظاره موجهة صوب الفردوس الأوروبي كما هو الحال بالنسبة لعمر، ذو العقد الثالث، الذي يتطلع بكثير من الأمل إلى دخول إحدى السفن الخاصة بنقل الرمال أو تلك التي تختص بنقل البضائع، وغيرها من الأمور الأخرى، والتي تقصد بين الفينة والأخرى ميناء المرسى، إما لتفريغ حمولتها أو نقل سلعة معينة نحو الخارج. 
وأبرز عمر، بكثير من التذمر، أنَّ "الأقدار قد تدفع المرء إلى القيام بمجموعة من الأشياء التي لم يكن يتصور أن يقوم بها ذات يوم، والتي قد تصل إلى حد الانتحار.
وهو حال كثير من الذين يتوافدون على ميناء المرسى، من أمثال عمر، اللذين يدخلون غمار تجربة الداخل فيها مفقود والخارج منها مولد، فليس هناك أيّة ضمانات للوصول للضفة الأخرى، الكل هنا يغامر، ولكن لا بديل عن المغامرة، ما دام أن الواقع المأسوي لغالبية المرشحين للهجرة يفرض عليهم الإسراع في خوض التجربة، لأن شبح الجوع يتهددهم من كل الجوانب.
والغريب في الأمر، أنَّ عدم اكتراث السلطات القيمة بشؤون الميناء بتواجد هؤلاء داخل هذا الجزء من الميناء، قد دفع الغالبية العظمى إلى تكوين مجتمع خاص بهم، يتقاسمون من خلاله الفضاء، ويتدبرون شؤونهم اليومية في إطار من التناسق والتعاون الذي افتقدوه وهم خارج أسوار هذا الميناء.
ويرى المهنيون داخل الميناء أنَّ "تواجد هذه الفئة داخل الميناء بات يشكل خطرًا حقيقيًا على مصالحهم، لا سيما أنَّ غالبية الحراكة يلجؤون إلى عدد من الممارسات غير القانونية، من قبيل السرقة والاعتداء على رواد الميناء، لاسيما في الفترة الليلة، الشيء الذي لا يصب في مصلحة سيرورة العمل في الميناء، سيّما وأنَّ الغالبية العظمى منهم تكون مدججة بمجموعة من الأسلحة البيضاء، وتتدبر قوت يوميها من خلال اللجوء إلى الوسائل غير المشروعة".
وطالب المهنيون بأن "تتحمل الجهات الوصية على تدبر شؤون الميناء مسؤوليتها كاملة في وضع حد لتدفق العشرات من الحراكة إلى هذا الميناء، حيث حوّلوا الجهة الشمالية الغربية منه إلى ثكنة خاصة بهم، يجعلون منها منطلقًا لأعمالهم الإجرامية، والتي غالبًا ما يكون ضحيتها المهنيون بالدرجة الأولى".
ظاهرة أخرى في الميناء تقلق المهنيين متمثلة بالأساس في تنامي نشاط تهريب الثروة السمكية، والتي ربطوها بالعديد من العوامل المترابطة، ما كان له العديد من الانعكاسات السلبية على الاقتصاد الوطني ككل، ويحملون المسؤولية في ذلك إلى الجهات المشرفة على قطاع الصيد البحري، ويطالبون في هذا الصدد من هذه الجهات بأن تتحمل مسؤوليتها كاملة للتصدي لهذه الظاهرة، وهو الأمر الذي لن يتحقق، حسب إفاداتهم، إلا من خلال التعاون مع العاملين في قطاع الصيد البحري، من أجل الحفاظ على الثروات الوطنية، حيث أنَّ احتواء هذا الداء، الذي صار ينخر جسم الاقتصاد الوطني، ليس من الاستحالة بما كان محاربته والحد منه، وذلك من خلال توقيف المتورطين في عمليات التهريب، التي تكلف الدولة خسائر باهظة، وأي تقاعس في هذا الاتجاه سوف يؤدي لا محال في نهاية المطاف إلى توقف العمل داخل ميناء المرسى.
وللوقوف عند السير العام لظاهرة التهريب، تتعرف في قلب ميناء المرسى، بعد فترة وجيزة من إقفال السوق التابع للمكتب الوطني للصيد البحري لأبوابه، على خبايا وأسرار تجارة التهريب داخل الميناء، حيث سرعان ما انتشر العشرات من السماسرة، الذين باتوا يشتغلون في العلن، في سابقة خطيرة، على مرأى ومسمع السلطات، كل واحد منهم يعرض خدماته مقابل نسبة أرباح معينة، تختلف من شخص لأخر، وتتمثل أساسًا في إخراج السلعة من الميناء، وتأمين وصولها إلى المدن الأخرى، ولكن لكل خدمة من الخدمات المقترحة سعرها، وإن رفضت الإذعان لتلك المساومات فليس لك من بديل غير هؤلاء الذين استفادوا من واقع أنَّ غالبية المهنيين يفضلون التعامل مع المهربين، كونهم يؤدون ثمن الكميات المتوفرة لديهم في الحين، ودون انتظار إجراءات طويلة، ومعقدة، كما هو الحال بالنسبة للمكتب الوطني للصيد البحري. 
وتتم عمليات البيع والشراء بصورة علنية، حيث تدخل إلى الميناء يوميًا العشرات من  السيارات والشاحنات من مختلف الأحجام والفئات، ويعمد الوسطاء إلى شراء ما في حيازة المهنيين من أسماك، بمختلف أصنافها، وكل ذلك بأسعار زهيدة، لا تعادل قيمتها الحقيقية، مستغلين الانحدار الاجتماعي الذي يعيش على وقعه المواطن، ويخرجون بكل تلك الكميات المهربة من الميناء دون الوثائق، التي من المفروض أن تسلمها لهم المصالح التابعة للمكتب الوطني الصيد البحري، والتي تثبت وزن البضاعة، وثمنها، وغيرها من المعلومات التي تؤشر على قانونية الامتلاك والتسويق. 
وتشير أصابع الاتهام في تحريك نشاط التهريب إلى ثلة من الشخصيات الوازنة ذات النفوذ المالي، التي استطاعت أن تكوّن لنفسها منبرًا مدافعًا متداخل المصالح، داخل الميناء، همّه الوحيد جمع الأموال وضخها في أرصدتهم البنكية، التي لا تعد ولا تحصى، ولو على حساب المئات من المهنيين، الذين صاروا يتحسرون على ما آلت إليه أوضاعهم، بسبب جشع مافيات التهريب، التي صارت تستغل الاختلالات العميقة في تدبر شؤون الميناء، من أجل الضغط على المهنيين، بهدف الارتماء في أحضان أنشطتهم المحظورة. 
ونشاط مافيات التهريب ليس حبيس أسوار ميناء المرسى فحسب، بل يتعدى ذلك الفضاء بكثير، حيث بمجرد  خروج سيارات المهربين من الميناء، محملة بالكميات الكبيرة من الأسماك تتجه نحو أماكن مخصصة لتخزينها، والتي تفتقد في غالبيتها إلى أبسط المقومات والشروط الصحية، حيث تبقى الأسماك المهربة عرضة للشمس وغير محفوظة على الثلج، أو معبّأة داخل الأكياس الحافظة، لمدة ساعات ليست بالقليلة، قبل أن يتم تجهيزها بعد ذلك في صناديق مهترئة، ويتم نقلها في شاحنات خاصة بنقل الأسماك من أجل تسويقها. 
وتخرج هذه الشاحنات محملة بالأطنان من الأسماك من مدينة المرسى متجهة إلى الأسواق المحلية والجهوية والوطنية، وعند الحواجز الأمنية يقدم سائقو هذه الشاحنات بيانات أو مستندات مزورة على قانونية الامتلاك  والتسويق، في حين أن البعض منهم يمتنعون عن تقديم أي بيان أو إقرار بحجة أن هذه البضاعة ملك لذوي النفوذ القوي، وهو الأمر الذي يسهل من مرورها إلى الجهة المقصودة حيث سرعان ما يتم إغراق أسواقها بهذه الكميات المهربة بطرق غير مشروعة، وبذلك يجني أباطرة تهريب الثروة السمكية من وراء هذه العمليات والممارسات أموالاً وثروات طائلةً لا تعد ولا تحصى. 
ويبقى عدد مهربين الثروة السمكية غير مضبوط، لكن عددهم في تزايد مستمر، وتقدر أرباحهم بمئات الملايين من الدراهم سنويًا، في حين أن وضعية المهنيين، لاسيما على مستوى وضعهم الاجتماعي، صارت مزرية للغاية، إذ أصبحت منذ مدة  في تراجع مستمر، حيث أصبح المهربين لا يترددون في استهدافهم في مصدر رزقهم.
ويترتب عن تجارة التهريب عواقب وخيمة على رواج بضائع المهنيين، بسبب الحضور المهم لبضائع المهربين في الأسواق الداخلية المغربية، التي تم إغراقها بها، والتي لا تؤدى عليها ضرائب، ولا رسوم، فتصبح سلع المهنيين التي تؤدى عليها الضرائب والرسوم شبه غائبة، لاسيما أن المستهلك يفضل السلع الزهيدة الأسعار، وهذا ما يمثل خسارة كبيرة بالنسبة للمهنيين، ولمداخل الدولة. 
ولذا، على جميع الجهات المختصة أن تكون على مستوى التحديات التي تواجهها، من خلال وضع حد لهذه الظاهرة، قبل أن تؤدي إلى تطورات تهدّد الاستقرار الاجتماعي والمهني لشريحة المهنيين في ميناء العيون، وذلك عن طريق وضع خطة محكمة تشترك فيها مختلف القوى لمحاصرة شبكات تهريب الثروة السمكية، ووضع ضوابط صارمة ورادعة  للمهربين، و لا يسمح بإخراج أي كمية من الأسماك من داخل الميناء ما لم تكن مستوفية للشروط المطلوبة، إضافة إلى الاهتمام بالمهنيين والانفتاح على مشاكلهم.
وتبقى أهم نقطة للحد نسبيًا من ظاهرة تهريب الثروة السمكية في الميناء هي عمل المكتب الوطني للصيد، صباحًا ومساءً، ليتمكن البحارة من بيع ما في حوزتهم مباشرة بعد خروجهم من البحر في أي وقت. 
ورغم تحركات المهنيين من أجل تطويق الظاهرة، تظل سياسة غض الطرف عن ما يقوم به هؤلاء المهربين من طرف الجهات المسؤولة من أكبر العوائق التي يصطدم بها المهنيون، وهو الأمر الذي دفع الغالبية العظمى منهم إلى توجيه نداء عاجل إلى جميع المتداخلين في عمل القطاع، من أجل التعاون والتنسيق المشترك لمكافحة التهريب، والتصدي بحزم لهذه الظاهرة التي تسبّب نزيفًا للاقتصاد الوطني بما لها من آثار وانعكاسات سلبية على المهنيين وحياتهم الاجتماعية ككل.

View on libyatoday.net

أخبار ذات صلة

الليرة التركية تتراجع إلى أدنى مستوى خلال شهرين بعد…
أسعار الغذاء العالمية ترتفع في حزيران للمرة الأولى في…
مؤسس "تيليغرام" يتعهّد بدفع أكثر من 1.2 مليار دولار…
فتح "شبه كلي" للاقتصاد في مصر و"صندوق النقد" يتجه…
حزمة دعم القطاع الخاص تقلّص تداعيات "كورونا" على الناتج…

اخر الاخبار

تسجيل 487 إصابة جديدة بفيروس كورونا المستجد في ليبيا
نقل محولين إلى محطتي الخضراء الجديدة والمصابحة في ترهونة
إطلاق خط بحري جديد بين الموانئ الإيطالية والليبية
مفوضية اللاجئين تتصدق بمواد غذائية على 2500 أسرة ليبية

فن وموسيقى

روجينا تكّشف أنها تحب تقديم شخصيات المرأة القوية فقط
رغدة تكشف كواليس مشاركتها في مسرحية "بودي جارد" مع…
ريهام عبد الغفور تكشف أنّ قِلة ظهورها في الدراما…
هيفاء وهبي تُعرب عن استيائها الشديد من الأحداث المؤسفة…

أخبار النجوم

نور تؤكّد أن "درب الهوى"سيكون تجربة درامية شديدة الاختلاف
أحمد جمال يعرب عن تفاؤله بالعام الجديد 2021
أروى جودة تؤكّد أن أصداء مشهد "ده هاني" في…
مايا نصري تكشف سبب ابتعادها عن الساحة الغنائية لعدة…

رياضة

قرعة الدوري الليبي تسفر عن قمة بين الأهلي بنغازي…
فريق الأخضر يضم إلى صفوفه االمدافع وجدي سعيد
قبل مواجهة الاتحاد الليبى كورونا تضرب بيراميدز
نادي المدينة يتعاقد مع "سالم عبلو " استعداد ًا…

صحة وتغذية

تمارين تساعدك في بناء العضلات وخسارة الوزن تعرف عليها
طبيب يحذر من خطأ "كارثي" يبطل فعالية لقاحات كورونا
الولايات المتحدة الأميركية تستقطب ربع إصابات كورونا في العالم
10 حالات غريبة يكشف عنها الطب خلال 2020

الأخبار الأكثر قراءة