الدار البيضاء - سعيد بونوار
قد ترمي بك الفلسفة إلى غياهب الإلحاد، وقد تدعوك إلى هجرالعالم لتعيش باحثًا عن الحقيقة، وقد تتيه في سراديب الظلمات باحثا عن المفقود، لم يشأ الفيلسوف والتشكيلي الألماني "هانس فيرنر" أن يبقى حبيس كهوف الأسئلة الكبرى وقرر أن يهجر العالم الغربي ليعيش في مدينة إسلامية تعيش نبض الحياة،
وآثر أن يبحث في خزاناتها القديمة عن حقيقة الإنسان فوجد ضالته في رفوفها وألوانها وحشودها، جاء إلى مراكش قبل 45 عامًا يتلمس طريق المعرفة، فكان أن رفض مغادرتها إلى الآن، ووصيته ألا يدفن إلا في مقابر المسلمين، هو اليوم طريح الفراش، يعيش بين أفراد أسرة مغربية ارتأت العناية به وقد بلغ من العمر عتيا.
اسمه "هانس فيرنر غوردتس "، وهو واحد من الفلاسفة والأدباء الفارين من جحيم المادية الغربية، لم تعد تستهويه أوروبا أو حتى أميركا في شيء، يشعر وكأنه عالم بخبايا قواعد حضارات هذه الدول القائمة على الفراغ الروحي، تسبقه مؤلفاته وأفكاره بل وحتى رسوماته إلى هناك، والتي يعرضها حاليا في إحدى قاعات العرض في مراكش.
يقرأ عنه الكثيرون دون أن يدركوا أن هذا الرجل اختار المنفى في مدينة عربية إسلامية، وفضل الزي الإسلامي المغربي دون غيره، في عاصمة النخيل مراكش التي كانت في فترة ما من التاريخ الإسلامي المشرق تحكم أوروبا والعالم على عهد المرابطين والخليفة يوسف بن تاشفين زمان "الوصل بالأندلس".
يقول الكاتب والمترجم المغربي عبد الغفار السويرجي عن هذا الفيلسوف والرسام لـ"المغرب اليوم":"شارك فيرنر في الحرب العالمية الثانية بصفته بحارًا في الأسطول الحربي لألمانيا ، وكان وقتئذ لا يزال في العشرين، وكان يبحث في السفر عن ذاكرة الاختلاف، قضى بضعة أعوام في اليابان، وتعلم فن الزن والخط المعبر، وافتتن بهما إلى درجة الانخطاف، درس الكتابة المسمارية فنقل إلى لغته الأم نص " إنانا"، ذلك الأصل الموحد لجميع العقائد، كان السفر عندئذ سبيلا للتربية الذاتية، كان يبحث عن هوية جديدة وملاذا للإنسان، وقادته الحياة إلى الجنوب فوجد بها الملاذ : أصيب بعشق المدينة ومتاهاتها ، تسكع داخل ساحة جامع الفنا وجبال الأطلس.
ويتحدث هانس عن نفسه فيقول : " الرسم هويتي ، سكنني مذ كنت صبيا، كان عمري في ذلك الوقت ست سنوات ، ولدت في كيل في ألمانيا عام 1925، وقد كان لظهور النازية أثر بالغ على طفولتي ، وبديهي أن تطبع قيم الفاشية حقل التربية في عهد هتلر، كان المبدع في ظل تلك الأجواء إنسانا مقصيا، فقد كان النظام يخنق قوة الخلق عند كل فرد، وكانت الشبيبة تقدم الروح والجسد فداء للوطن، وجاءت النكسة الكبرى، كنا وقتها 23 تلميذا في الصف، وانتهت الحرب ولم يبق منا على قيد الحياة سوى ثمانية فقط، لم نصدم بفعل مشاهدة الجثت المنتشرة في جميع الأمكنة.. في أقباء البنايات الخربة، وداخل الخنادق، وضحايا القذائف ورصاص القناصة، بل لأننا وقعنا ضحية فكر متعصب، كم كانت صدمتنا كبيرة ؟ كان الثامن من مايو 1945قطيعة مع قيم الحرب، بيد أن البؤس كان طابع مرحلة ما بعد الحرب، لم يكن بمقدورنا مغادرة المدينة ".
يركز هانس فيرنر غوردتس في أعماله التشكيلية على البيض والسود، وعلى رسم الحشود وعن هذه التجربة يقول : "سحرتني في مراكش جموع الناس وتشكلات الحشود، يشكل الناس في ساحة جامع الفناء دوائر حول شخص ما، الدائرة شكل الحشد في المدينة المتعددة الأبواب، وأما الحشود الأخرى التي يمكن أن نجد في نيويورك فهي تنتظم على شكل خط مستقيم.. الحشد بالنسبة لي كتاب دوِّن بأحرف بشرية".