بغداد - وكالات
عنوان رواية الأديبة العراقية إنعام كجه جي «طشاري» التي صدرت حديثا عن «دار الجديد» في بيروت، لا ينسحب فقط على المضمون وهو يروي حكاية تشرذم العراقيين في أرجاء البسيطة، وإنما أيضا على أسلوب السرد المتشظي. حكاية العمة وردية إسكندر، الطبيبة النسائية المسيحية التي انطلقت من «الموصل» إلى محافظة الديوانية في بداية عملها المهني لتؤسس هناك أول صالة لتوليد النساء في بلدة صغيرة، ومن ثم ما آل إليه مصيرها مع زوجها وأولادها وأحفادها بعد حروب دامية متتالية، ستشكل محورا تروي من خلاله الكاتبة قصص الأقليات ومعاناتهم في منطقة تحترق. تفتتح الرواية بمشهد وصول الدكتورة وردية إلى قصر الإليزيه في باريس، لحضور حفل يقيمه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي على شرف البابا بنديكتوس السادس عشر، يدعى إليه عدد من اللاجئين العراقيين المسيحيين الذين يجلسون في الصفوف الأولى. هذا المشهد سرعان ما يبدو، مجرد مقدمة لنلحق بخيط سيرة وردية منذ دخلت كلية الطب في بغداد رغما عنها، مرورا بذهابها إلى الديوانية في خمسينات القرن الماضي، لبدء عملها هناك إثر تخرجها، ومن ثم كفاحها لتحسين ظروف توليد ومعالجة مريضاتها، وشرائها لسيارة يوم كانت السيارات ندرة والنساء السائقات محدودات العدد، ومن ثم تعرفها على زوجها جرجس، المناضل الناصري، العائد من حربه في فلسطين، وولادتها لأولادها الثلاث. كل هذا تسرده كجه جي بوتيرة متقطعة بحيث إن الراوية الأساسية وردية تستعيد كل هذه الذكريات بعد وصولها إلى باريس، بعيدا عن أولادها، بانتظار الالتحاق بابنتها هنده في كندا. إقامة فرنسية بين بلدين وحياتين لامرأة كانت تأمل بشيء من الوداعة والسكينة بعد خدمة بلدها وشعبها، فإذا بها مشتتة مشرذمة لا تجد وطنا إلا صندوق ذكرياتها. في باريس تكون العمة وردية إلى جانب ابنة شقيقها وزوجها وابنهما الصغير إسكندر، الذي تصيبه اللعنة هو الآخر، فيفتتح على الإنترنت مقبرة إلكترونية افتراضية يجمع عليها موتى العراقيين الذين يطلبون منه ذلك، لعل ما فرقته الحياة يجمعه الموت. مقبرة تأتيه فكرتها، بعد أن يعرف برغبة العمة في الموت في بلدها، هذه العمة التي ستكون له بمثابة الجسر الذي يربطه ببلده من خلال حكاياها وقصصها، هو الذي لم يزر العراق إلا مرة واحدة. في الرواية تشعبات كثيرة، وتجوال في الأمكنة التي تتنقل فيها وردية وباقي الشخصيات. في الموصل هناك عائلة وردية وإخوتها ووالدتها، وفي الديوانية التي تنتقل إليها بعد ذلك، حياة أخرى، هناك المربيات والمرضعات والمريضات، ووزير الصحة، ومدير الصحة اللبناني سليمان فرنجية مع زوجته لوريس، وهي عائلة مسيحية أخرى، لكن من شمال لبنان هذه المرة تنضم إلى الرواية. هذا عدا جرجس الذي ستتزوجه وردية وتسكن مع والدته الكبيرة في السن. ثم هناك محطة الأردن التي لا بد منها للمهاجرين العراقيين قبل الانتقال إلى أي مكان آخر، وصولا إلى باريس التي ستشكل منصة بانتظار أن تتمكن الدكتورة من الالتحاق بابنتها في كندا. تستسلم كجه جي لنهج تداعيات الذاكرة في رواية حكاياتها المتداخلة، مما يجعلها، تقدم وتؤخر، تتنقل بين القصص، تقفز بين الشخصيات، تترك لراوية أخرى غير العمة وردية أن تتدخل في السرد. تسوق ذاكرة العمة أو الدكتورة وردية المشاهد على هواها، فهي التي تقود اللعبة، وتجول بنا حيث شاءت، وكيفما ساقها الحنين. أمر يربك القارئ أحيانا الذي يبحث عن نقطة ارتكاز يستند إليها، في تلافيف ذاكرة العمة المهاجرة التي تكتوي بجمر الماضي، وقلق المستقبل. بموازاة حياة الدكتورة وردية، هناك تجربة ابنتها الدكتورة هنده، التي تشاء الأقدار بعد أن تهاجر إلى كندا أن تعيش حياة شبيهة جدا بما أسسته والدتها في العراق، وفي الديوانية تحديدا، لكن في منطقة نائية من هذه البلاد الصقيعية، ومع السكان الأصليين هناك. كافحت الدكتورة وردية من أجل تحسين حياة النساء في الديوانية وها هي هنده، تفعل ما يشبهه مع مدمني الخمور من المهمشين والسكان الأصليين من الهنود الحمر في كندا. من روايتها «الحفيدة الأميركية» إلى «سواقي القلوب» وصولا إلى «طشاري»، النساء المسنات العراقيات الآتيات من الموصل، هن بطلات إنعام كجه جي، لكل منهن تجربتها ومعاناتها، في بلد نزف طويلا، وعصفت به المحن دون رحمة. نساء الحروب، لسن كغيرهن من النساء وإنعام أرادت أن تتبعهن وتستنطقهن، في كل مرة وكأن تجربتهن تختصر الألم العراقي كله. في «طشاري» ثمة تركيز على المسيحيين، وتعريج على ما أصاب اليهود أيضا. رغبة في إبراز روح التآخي القديم، من خلال مشاهد مشاركة المسيحيين للمسلمين طقوسهم، في عراق متسامح، متعايش ودود. مع الحرب، تتغير الصورة، وتبدأ التهديدات من الجماعات المتطرفة، التي تريد أن تختطف ياسمين لتزوجها عنوة لأحد أهل الجماعة، مما يدفع بعائلتها لتزويجها من رجل لا تعرفه في دبي، إنقاذا لها، هذا غير المرأة الحامل بالحزام المفخخ التي تقتحم عيادة العمة وردية، مما سيجعلها تفهم أن البقاء في العراق صار مستحيلا. ربما أن التركيز على مسيحية وردية أنسى الروائية الجانب العاطفي الذي يغني الرواية عادة ويمنحها طراوتها وعذوبتها. مرت حكاية تعارف الدكتورة الشابة وردية بزوجها جرجس، وكأنما لا حب ولا عشق جمعا بينهما، مع أن ثمة تلميحات إلى إعجاب وردية بالرجل الذي تلقت نبأ طلبه ليدها بموافقة لا تردد فيها، بل فرح وإقبال. بقيت إنعام كجه جي في روايتها «طشاري» تقريرية، غير معنية كثيرا بحكايا القلوب، وهمسات الأرواح التواقة للقاء بعضها خارج لوعة العذابات العراقية الطويلة. الحرب ثم الحرب والنضال من أجل البقاء، بين السفارات والمطارات وتعبئة الأوراق، وقص حكايات العراقيين مع جوازات سفرهم وعلى الحدود، وفي محطات الانتظار، وخصوصية المسيحيين العراقيين تحديدا، هو ما يشغلها ويحرك بوصلة روايتها.