واشنطن - وكالات
ما الذي يجمع بين رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة مارغريت ثاتشر، والحرب الروسية الأفغانية، والزعيم الإصلاحي الصيني الشهير دينغ شياوبينغ، والبابا يوحنا بولس الثاني، والثورة الإيرانية؟ لا يبدو فعلا أن هناك رابطا يجمعهم إلا ربما شيء واحد هو: عام 1979. هذا العام الغريب شهد صعود أسماء وبزوغ أحداث غيرت وجه العالم الذي نعرفه اليوم. ثاتشر، رسول الرأسمالية والسوق المفتوحة التي يعيشها العالم اليوم، تسلمت مهامها كرئيسة للوزراء في 1979. الغزو الروسي لأفغانستان الذي أسهم بتصدع الإمبراطورية السوفياتية، وخلق الحاضنة التي ترعرعت فيها الجماعات الإرهابية، حدث في ذلك العام أيضا. الصين لم تكن اليوم بهذه القوة الاقتصادية لولا إصلاحات شياوبينغ الجذرية التي بدأت في العام نفسه. البابا يوحنا بولس الثاني تحدى الشيوعية، وأسهم في إنعاش الكنسية الكاثوليكية، تسلم منصبه عام 1978، ولكن أكثر خطواته جرأة حدثت في عام 1979. وبالطبع من يستطيع أن ينسى الثورة الإيرانية التي انفجرت في ذلك العام الغريب؟ في كتابه الصادر حديثا «المتمردون الغرباء: 1979 وولادة القرن الواحد والعشرين» يشرح ببراعة الصحافي الأميركي كريستيان كارل سر هذا العام الذي يعتبر - إذا نظرنا إلى الوراء - ربما العام الأهم الذي فتح فصلا جديدا في كتاب التاريخ المعاصر. من المثير أن الكثير من المراقبين توقعوا أن عقد السبعينات هو مجرد ظلال للعقد الذي قبله. إحساس بالفوضى وانعدام النظام بسبب اغتيال كيندي، فضيحة ووترغيت، وتداعيات الحرب الفيتنامية، وتزايد تعاطي المخدرات والكحول. كان عقدا كئيبا يسير بلا هدى، ولكن بالضبط في سنته الأخيرة اتخذ التاريخ منعطفا حادا ما زلنا نقع تحت تأثيراته الإيجابية والسلبية. إذا كان عام 1979 هو المنعطف الحاسم، فإن الأحداث الذي أوصلت إليه كانت عبارة عن سلسلة من التفاعلات التاريخية التي اندفعت بشكل منطقي أحيانا وغريب في أحيان أخرى، لتتفجر جميعها في هذا العام. قبل أن نصل لثاتشر التي أصبحت رئيسة للوزراء في عام 1979، نعود إلى الوراء لكي نتعرف على هذه المرأة الصلبة والعنيدة التي علمها الأب البقال أن تحفر طريقها الخاص وتجعل الآخرين يتبعونه، وليس العكس (هذا الأب الذي زرع في ابنته العنيدة قيم الكد والكفاح كان محافظا على المستوى الاجتماعي وليبراليا على المستوى الاقتصادي). ثاتشر التي تخصصت في الكيمياء في مرحلتها الجامعية كان ترد بسخرية على من يسألها عن كونها أول امرأة تصبح رئيسة للوزراء بالقول: «لست أول امرأة بل أول عالمة تصبح رئيسة للوزراء!». لكن هذه الثقة والنزعة الثورية التغيرية القوية التي عرفت عنها ظلت مكبوتة بداخلها ولم تظهر إلا بالتدريج. يقول الكاتب إن ثاتشر كانت مؤمنة بقيم السوق والمنافسة بشكل عميق ولكنها لم تظهر إلا القليل من هذه النزعة القوية لأنها لم ترد أن تخاطر بصعودها السياسي التدريجي. كانت سياسية تتأرجح بين المثالية والواقع السياسي. عملية ولم تكن مستعدة للتصريح بأقوال قد تضر بمكانتها السياسية، وخصوصا في الخمسينات والستينات، حيث اعتبر الحديث عن السوق المفتوحة والمنافسة هرطقة تعارض العقيدة الاقتصادية المترسخة بسيطرة الدولة على الاقتصاد. حتى عندما أصبحت ثاتشر وزيرة للتعليم، لم تستطع أن تفرض سياستها وأفكارها وأنهت مدتها من دون أن تحدث تغيرات ملحوظة (لا أحد يتذكرها إلا بقصة إلغائها للحليب المجاني في المدارس، وسميت بعدها: ثاتشر.. سارقة الحليب). حتى داخل حزبها المحافظ لم يوجد الكثير من الشخصيات التي تتفق مع إيمانها الكامل بأن المنافسة والسوق المفتوحة هي الوصفة الملائمة للاقتصاد البريطاني المتردي. زعيم حزب المحافظين في ذلك الوقت ادوارد هيث (والذي أصبح رئيسا للوزراء بين عامي 1970 إلى 1974) كان مؤمنا بالمزاوجة بين سيطرة الدولة والاقتصاد الحر. لكن الاقتصاد البريطاني استمر في الانهيار، ومعدلات التضخم ارتفعت بمعدلات غير مسبوقة، وزاد البطالة وانفجرت المظاهرات والإضرابات. بريطانيا العظمى التي شكلت الاقتصاد العالمي ركعت على ركبتيها وطلبت قرضا من صندوق الدولي، التي أسهمت يوما في تأسيسه، كأول دولة صناعية تقدم على هذه الخطوة. في ذلك الوقت الحرج وفي ذلك العام الغريب جاءت ثاتشر لتغير المعادلة الاقتصادية وتقلب الصورة تماما. رأت في تاتشر في نفسها متمردة وثورية على العقيدة الاقتصادية المترسخة بعد الحرب العالمية الثانية التي نجحت في البداية لأسباب متعددة، ولكنها كادت تغرق البلد بعد ذلك. هذه المرأة الحديدية لم تكن تؤمن بالإجماع أو الاتفاق، بل كانت نزاعة للاستقطاب والتغيير الجذري. لقد نجحت أفكارها وسادت مبادئها. منذ عام 1979 اتخذت بريطانيا مسارا اقتصاديا وحضاريا متصاعدا لحد هذه اللحظة. الزعيم الصيني الإصلاحي الشهير دينغ شياوبينغ مر بظروف أكثر قسوة وصعوبة من الظروف التي مرت بها ثاتشر. رغم أنه كان مقربا من ماو الذي كان معجبا به بعد إدارته للحرب مع الغزو الياباني، فإنه قرب وأبعده، أعزه وأهانه، في النهاية عاد إليه بعد شعر أن الثورة الثقافية التي أطلقها حققت أهدفها، على الرغم من أنها مثلت كارثة على الاقتصاد والمجتمع الصيني. لكن شياوبينغ كان دائما رجلا براغماتيا وعقلا باردا، ولم يرفع صوته بالانتقادات للأوضاع في الصين إلا في الوقت المناسب. شياوبينغ الذي خسر زوجته الأولى، وأهانته زوجته الثانية بعد قررت الانفصال عنه علانية، قبل أن ينجح ويثمر زواجه الثالث، تحول من شخص اجتماعي محب للحديث إلى شخص منطو على نفسه. ولكن بكل الأحوال لم يخسر أبدا ذكاءه الحاد وواقعيته الباردة. يقول الكاتب إن ماو أشار إليه في أحد الاجتماعات مع المسؤولين الأميركيين بالقول: «ذلك القصير سيكون لك مستقبل باهر». بالفعل أثبت ذلك القصير أنه أفضل ما حدث للصين خلال العقود الأخيرة. أحدثت قراراته التاريخية بفتح السوق الصينية وخصخصة الأراضي الزراعية، وفتح الباب للاستثمارات الخارجية بداية صعود العملاق الصيني الذي لم يتوقف عن النمو. زيارة شياوبينغ للولايات المتحدة في عام 1979 هزته رغم بعض الأحداث الطريفة المربكة التي حدثت خلالها. ففي حفل العشاء الذي أقامه الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر على شرفه جلست بجانبه الممثلة الهوليوولدية شيرلي ماكلين وبادرته بالقول إنها زارت الصين أيام الثورة الثقافية وأذهلها منظر البروفسور وهو يحرث الأرض. نظر إليها شياوبينغ - الذي عانى هو نفسه من هذه الثورة - بازدراء وقال لها: «مكان البروفسور هو التدريس في الجامعات وليس زرع الخضار!». عاد بعدها شياوبينغ إلى الصين وفي مخيلته صين أخرى للمستقبل. الصين التي أنهكتها الشيوعية كانت خربة متخلفة في الوقت الذي كانت فيه جيرانها مثل سنغافورة واليابان تصعد وتزدهر. أحدث بعدها صاحب المقولة الشهيرة «ليس مهما أن يكون القط أبيض أو أسود، وإنما المهم أن يصيد الفئران» نقلته الكبرى في عام 79 وتغيرت الصين والعالم بعدها. البابا البولندي يوحنا بولس الثاني كان أول بابا غير إيطالي يعتلي سدة الهرم البابوي عام لأكثر من 400 عام. ينظر لزيارته لبلده بولندا الواقعة تحت النفوذ السوفياتي على أنه أول الشروخ في جسم الكتلة الشرقية التي انهارت بعد تلك بعشر سنوات. ذهب هذا البابا إلى بلده الأصل، وهناك ألقى39 خطابا، تحدى فيه بشكل صريح الآيديولوجية الماركسية. لمس في تلك الخطابات قلوب ملايين البولنديين الذي احتشدوا لسماع كلماتهم المعبرة. يقول الكاتب إن البولنديين المفروضة عليهم فرضا العقيدة الماركسية لم ينفصلوا فعلا عن ارتباطهم بالكنسية الكاثوليكية. لعقود طويلة ربط البولنديون هويتهم الوطنية بالكنسية، واستمر هذا الشعور حتى بعد دخل بلدهم تحت النفوذ الشيوعي. ضغط البابا الذي عرف عنه قدرته على الخطابة والتأثير هذه الفكرة وأخذ في خطبه الشهير يتحدث لا عن المال أو المادة أو الاقتصاد، ولكن عن أهمية الجانب الروحي في حياة الإنسان. يقول المؤلف إن ذلك العام يمكن أن يؤرخ لبداية عودة الدين المسيس إلى أوروبا، والذي تصاعد بعدها ليصل إلى الولايات المتحدة الذي فيه يلعب فيه خليط الدين والسياسة دورا مهما. ولكن عودة الإسلام السياسي أقوى وأعمق ليس في الغرب، ولكن في الشرق. الحرب الأفغانية ابتدأت علامتها بالظهور مع الرئيس الأفغاني محمد داود خان ولكنها بدأت فعليا عام 79. كانت أحد الأسباب التي أدت إلى انهيار الإمبراطورية السوفياتية، ولكنها حولت أفغانستان إلى حاضنة الجماعات الإرهابية الباحثة عن القوة والنفوذ. العالم كله ارتج من عمليات تنظيم القاعدة الإرهابية وغيرها من المنظمات التي تتبنى العنف باسم الدين. لكن الإسلام السياسي صعد بشكل غير مسبوق مع الثورة الإيرانية التي أطاحت بالشاه محمد رضا بهلوي عام 1979. الشاه الذي أطلق ما يسمى الثورة البيضاء التي تهدف إلى تحديث بلاده، لم يكن يظن أن الملالي قادرون على إزاحته من عرشه وتبديد حلمه، ولكن هذا ما حدث. منذ ذلك العام تغير وجه العالم، وما زال تأثير تلك الثورة حاضرا على منطقة الشرق الأوسط. يقول الكاتب إن الأحداث التي وقعت في ذلك العام وأفكار الشخصيات التي برزت فيه، هي من يشكل الواقع الذي نعيش فيه. يكتب: «أحببت ذلك أو لا، السوق والدين المسيس هما من أهم القوى المؤثرة في القرن الحالي». يتذكر الكاتب أحداثا أيضا مهمة مثل أن نشوء فكرة شركة «مايكروسوفت» كانت في ذلك العام، وبداية ما يمسي اختلال معدلات الدخل في أميركا أيضا بدأت في ذلك العام. ولكنه ينسى أحداثا مهمة مثل وصول الرئيس العراقي السابق صدام حسين إلى سدة الرئاسة كانت أيضا في ذلك العام. بالطبع المصادفة وحدها جعلت من هذا العام المنعطف الذي التف معه التاريخ بشكل لم يتوقعه أحد. إذا اعتمدنا على ذات النهج الذي طبقه الصحافي كارل في كتابه المهم هذا، هل يمكن القول، وبعد الإطاحة بحكم «الإخوان المسلمين» بمصر، إن عام 2013 سيكون العام الذي بدأت فيه آيديولوجية الإسلام السياسي بالانهيار؟!