الرئيسية » المزيد من أخبار الدين والدنيا
الطهارة بمياه الصرف الـمعالجة

القاهرة - المغرب اليوم

ذهب جمهور الفقهاء إلى أنَّ الماء الذي يَصْلُح للطهارة به هو الماء المطلق؛ أي الباقي على أصل خلقته؛ مثل مياه البحار والأنهار والأمطار ونحوها؛ قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [الفرقان: 48]، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فِي الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» رواه أصحاب السنن، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ الْمَاءَ طَاهِرٌ؛ إِلَّا أَنْ تَغَيَّرَ رِيحُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ لَوْنُهُ بِنَجَاسَةٍ تَحْدُثُ فِيهَا» رواه البيهقي في "السنن الكبرى".

قال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (1/ 83، ط. دار الكتب العلمية): [فما يحصل به التطهير أنواعٌ: منها الماء المطلق، ولا خلاف في أنه يحصل به الطهارة الحقيقية والحكمية جميعًا] اهـ.

وأجمع أهل العلم على أنَّ الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيَّرت للماء لونًا أو طَعْمًا أو رائحةً فإنه يَنْجُس ما دام كذلك؛ قال الإمام ابن المنذر في "الإجماع" (ص: 35، ط. دار المسلم): [وأجمعوا على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسةٌ فغيّرت للماء طعمًا أو لونًا أو ريحًا: أنه نجسٌ ما دام كذلك] اهـ.

وحَدُّ الماء الكثير عند جمهور الفقهاء هو مقدار قلتين من قِلَالِ هَجَر، و"قِلَال": جمع قُلَّةٍ وهي الجَرَّةُ الضخمة، و"هَجَر": بلدةٌ كانت تُصَنَّع بها القِلال؛ قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (7/ 213، 228، ط. دار المعرفة): [قوله: «قِلَالِ..»؛ قال الخطابي: القِلَالُ بالكسر جمع قُلَّةٍ بالضم هي الجِرَارُ.. قوله: «..هَجَر» أن المراد بها: قريةٌ كانت قُرب المدينة، كان يُصْنَعُ بها القِلَال. وزعم آخرون بأن المراد بها: هَجَر التي بالبحرين؛ كأن القِلَالَ كانت تُعْمَلُ بها وتُجْلَبُ إلى المدينة، وعُمِلت بالمدينة على مِثَالِهَا. وأفاد ياقوت: أن هَجَر أيضًا بَلَدٌ باليمن] اهـ.
ومقدار القلتين من قِلَال هَجَر: 270 لترًا تقريبًا. انظر "الفقه الإسلامي وأدلته" للدكتور وهبة الزحيلي (1/ 273، ط. دار الفكر).

والماء الـمُتَجمِّع من الصَّرْف الصحي الذي نحن بصدد الحديث عنه يُعَدُّ ماءً كثيرًا تَغيَّرت أوصافه الثلاثة -الطعم، واللون، والرائحة-؛ فلا شك في تنجسه.

وقرر جمهور الفقهاء أن الماء المختلط بالمتنجس يَطْهُر بطُرُقٍ؛ منها: التكثير، ومعناه: صَبُّ الماء الطاهر على الماء المختلط بالمتنجس الذي تغيَّر حتى يَغْمَرها وتستهلك فيه؛ بحيث يذهب التغيُّر عن الأوصاف الثلاثة: الطعم، واللون، والرائحة.

قال الإمام الدسوقي المالكي في "حاشيته على الشرح الكبير" (1/ 46، ط. دار الفكر) عن الماء الذي حلّت فيه نجاسة وغيّرته: [فإن زال تَغُيُّرُهُ بِصَبِّ مُطْلَقٍ عليه قليلٍ أو كثيرٍ أو ماءٍ مضافٍ انْتَفَتْ نجاستُهُ قولًا واحدًا] اهـ.

وقال الخطيب الشربيني الشافعي في "مغني المحتاج" (1/ 126، ط. دار الكتب العلمية): [(فلو كُوثِرَ) المُتنَجِّسُ القليل (بِإِيرَادِ -أي بِصَبِّ-) ماءٍ (طهورٍ) أي أُورِدَ عليه طَهُورٌ أكثر منه (فلم يبلغهما لَمْ يَطهُر) لمفهوم حديث القُلَّتَين؛ لأنه ماءٌ قليلٌ فيه نجاسةٌ، ولأن المعهود في الماء أن يكون غاسلًا لا مغسولًا (وقيل) هو (طاهرٌ) بشرط ألَّا يكون به نجاسةٌ جامدةٌ؛ قياسًا للماء على غيره] اهـ.

والأصل في تطهير القليل بالكثير ما أخرج الإمام البخاري في "صحيحه" من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه لَمَّا بال الأعرابي في المسجد: «دَعُوهُ، وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ».

قال الإمام الخطابي في "معالم السنن" (1/ 116، ط. المطبعة العلمية): [وفي هذا دليلٌ على أنَّ الماء إذا وَرَدَ على النجاسة على سبيل المكاثرة والغلبة طَهَّرَهَا] اهـ.

والظاهر مِن كلام العلماء أن الماء كما يتنجس بما يغير طَعْمَهُ أو لَوْنَهُ أو رِيحَهُ من نجاسةٍ فإنه كذلك يطهر بزوال ما غيّره ابتداءً، ولكنهم لم يكن لديهم طريقة لإزالة ذلك إلا بالتكثير، ولو تحقق ذلك بطريقةٍ أخرى في زمانهم لتحصل طهارته بها؛ كما هي الحال في العصر الحديث مِن قطع العوالق النجسة مِن مياه الصرف الصحي.

ومياه الصرف الصحي هي مياهٌ ملوثةٌ مجمعةٌ من المجمعات السكنية والتجارية والصناعية والزراعية، وهذا التلوث ناتجٌ عن اختلاط الفضلات المنزلية والصناعية من هذه المصادر، ويتم التخلص من هذه المياه وتصريفها باستخدام الأنابيب أو المجاري أو أيِّ أبنيةٍ أخرى مشابهة، وأحيانًا يتم تصريفها في حفرةٍ، وتفرغ هذه الحفرة باستخدام مُعدَّاتٍ خاصةٍ تمتص هذه المياه وتصرفها في الأماكن المخصصة لذلك.

ومعالجة مياه الصرف الصحي عمليًّا تمر بمراحل أربعة: الترسيب، والتهوية، وقتل الجراثيم، والتعقيم بالكلور. ومن خلال هذه المراحل تتحول صفات الماء إلى درجةٍ قريبةٍ من ماء الأنهار، وفي مراحل متقدمةٍ من المعالجة -باستخدام ما يُسمى: "الـمُرشحات الرملية، والامتصاص الكربوني، والأكسدة الكيميائية، والتناضح العكسي"- تزداد درجة النقاء بحيث تُزَالُ الشوائب والعوالق التي لحقت بالماء -كالزيوت والدهون والعكارة- تمامًا، وتصبح المياه نقيةً وقريبةً جدًّا من المياه الصالحة للشُّرب والاستهلاك الآدمي.

وعلى ذلك فإن ما يتم القيام به في زماننا في عملية تنقية مياه الصرف الصحي بمراحلها المختلفة، وما يستخدم من المواد بما يتم بها إزالة العوالق النجسة والروائح الكريهة، وكذلك ما يحدث من مرور المياه على أكثر من تصفية؛ هو السبب الذي يصير به الماء طاهرًا بناءً على ما قرره الفقهاء في قولهم بالتكثير. 

أما كون هذا الماء مخلوطًا بمواد مثل الكلور: فإن هذا الأمر لا يغيّر في طهوريته؛ وذلك على ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة في روايةٍ؛ فإنهم يرون أن الماء الذي خالطه طاهرٌ يمكن الاحتراز عنه -كالكلور ونحوه قياسًا على الصابون والزعفران ونحوهما- فتَغَيَّرَ به أحدُ أوصافه؛ فإن هذا لا يغيِّر في كونه طاهرًا مطهِّرًا، إلا أن الحنفية يشترطون أن لا يكون التغيير عن طبخٍ أو عن غلبةِ أجزاءِ المخالِطِ للماء حتى يصير الماء ثخينًا به.

قال الإمام الميرغيناني الحنفي في "الهداية" (1/ 21، ط. دار إحياء التراث العربي بتصرف): [(ولا يجوز) -أي التطهر- بماءٍ غَلَبَ عليه غيرُهُ فأخرجه عن طبع الماء؛ كالأشربة والخل وماء الباقلا والمرق وماء الورد وماء الزردج (لأنه لا يسمى ماءً مطلقًا، والمراد بماء الباقلا وغيره: ما تَغَيَّرَ بالطبخ، فإن تغير بدون الطبخ يجوز التَّوَضِّي به، وتجوز الطهارةُ بماءٍ خَالَطَهُ شيءٌ طاهرٌ فَغَيَّرَ أحدَ أوصافِهِ؛ كماء الْمَدِّ -أي ماء السَّيْل-، والماءِ الذي اختلط به اللبن أو الزعفران أو الصابون أو الأشنان)] اهـ.

وقال الإمام ابن قدامة في "المغني" (1/ 11، ط. مكتبة القاهرة): [ما خالطه طاهرٌ يمكن التحرزُ منه فَغَيَّرَ إحدى صفاته: طعمه، أو لونه، أو ريحه؛ كماء الباقلا، وماء الحمص، وماء الزعفران. واختلف أهل العلم في الوضوء به، واختلفت الرواية عن إمامنا -أي الإمام أحمد- رحمه الله في ذلك؛ فَرُوِيَ عَنهُ: لا تحصل الطهارة به، وهو قَولُ مالك والشافعي وإسحاق. وقال القاضي أبو يعلى وهي أصح، وهي المنصورة عند أصحابنا في الخلاف. ونَقَلَ عن أحمد جماعةٌ من أصحابه؛ منهم أبو الحارث، والميموني، وإسحاق بن منصور: جوازَ الوضوء به. وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه؛ لأن الله تعالى قال: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾ [النساء: 43]، وهذا عامٌّ في كل ماءٍ؛ لأنه نكرةٌ في سياق النفي، والنكرة في سياق النفي تَعُمُّ؛ فلا يجوز التيمم مع وجوده، وأيضًا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه: «التُّرَابُ كَافِيكَ مَا لَمْ تَجِدْ الْمَاءَ»، وهذا واجدٌ للماء] اهـ.

وبناءً على ما سبق: فإن تنقية مياه الصرف الصحي بوسائل التنقية الحديثة بحيث لا يبقى للنجاسة أثرٌ في طعمه ولونه وريحه، تجعل هذه المياه طاهرةً يصح رَفْعُ الحدث بها وإزالةُ النجس.
والله سبحانه وتعالى أعلم. 

 

View on libyatoday.net

أخبار ذات صلة

مواقيت الصلاة في ليبيا اليوم الخميس 24 كانون الأول…
مواقيت الصلاة في ليبيا اليوم الثلاثاء 22 كانون الأول…
مواقيت الصلاة في ليبيا اليوم الإثنين 21 كانون الأول…
مواقيت الصلاة في ليبيا اليوم الأحد 20 كانون الأول…
مواقيت الصلاة في ليبيا اليوم الجمعة 18 كانون الأول…

اخر الاخبار

تسجيل 487 إصابة جديدة بفيروس كورونا المستجد في ليبيا
نقل محولين إلى محطتي الخضراء الجديدة والمصابحة في ترهونة
إطلاق خط بحري جديد بين الموانئ الإيطالية والليبية
مفوضية اللاجئين تتصدق بمواد غذائية على 2500 أسرة ليبية

فن وموسيقى

روجينا تكّشف أنها تحب تقديم شخصيات المرأة القوية فقط
رغدة تكشف كواليس مشاركتها في مسرحية "بودي جارد" مع…
ريهام عبد الغفور تكشف أنّ قِلة ظهورها في الدراما…
هيفاء وهبي تُعرب عن استيائها الشديد من الأحداث المؤسفة…

أخبار النجوم

نور تؤكّد أن "درب الهوى"سيكون تجربة درامية شديدة الاختلاف
أحمد جمال يعرب عن تفاؤله بالعام الجديد 2021
أروى جودة تؤكّد أن أصداء مشهد "ده هاني" في…
مايا نصري تكشف سبب ابتعادها عن الساحة الغنائية لعدة…

رياضة

قرعة الدوري الليبي تسفر عن قمة بين الأهلي بنغازي…
فريق الأخضر يضم إلى صفوفه االمدافع وجدي سعيد
قبل مواجهة الاتحاد الليبى كورونا تضرب بيراميدز
نادي المدينة يتعاقد مع "سالم عبلو " استعداد ًا…

صحة وتغذية

تمارين تساعدك في بناء العضلات وخسارة الوزن تعرف عليها
طبيب يحذر من خطأ "كارثي" يبطل فعالية لقاحات كورونا
الولايات المتحدة الأميركية تستقطب ربع إصابات كورونا في العالم
10 حالات غريبة يكشف عنها الطب خلال 2020

الأخبار الأكثر قراءة