في الأدب الشعبي، العمال الأميركيون هم الأكثر اجتهاداً في الاقتصادات المتطورة، مقارنة بنظرائهم الأوروبيين خصوصاً الفرنسيين، الذين يتمتعون بعدد أيام إجازة أكثر ويعملون أقل. ولكن للمرة الأولى منذ ٣٠ عاماً، تظهر الأرقام أن معدل إنتاجية العامل الأميركي هذه السنة ستتقلص، فيما ستنمو بفي شكل طفيف إنتاجية عمال الدول الآسيوية.
ووفقاً لمؤسسة «كونفرنس بورد»، فإن إنتاجية العمال عالمياً للعام الحالي ستنمو بنحو 1.5 في المئة، مقارنة بنمو بلغ 1.2 في المئة العام الماضي. وفي تقرير سنوي، توقعت المؤسسة أن ينمو الناتج المحلي الأميركي بمعدل 1.7 في المئة، ما يعني أن إنتاجية العامل على أساس الساعة ستبقى على حالها، أو تتراجع بفي شكل طفيف لتسجل نسبة سلبية للمرة الأولى في ثلاثة عقود.
وكانت إنتاجية العمال الأميركيين بلغت 0.7 في المئة العام الماضي، ما يعني ارتفاعاً بواقع 0.3 في المئة على أساس الساعة الواحدة للعامل. كما بلغت نسبة نمو إنتاج عمال بريطانيا ١ في المئة في 2015 وهي نسبة مشابهة لنمو إنتاج عمال أوروبا، فيما ارتفع إنتاج اليابانيين من سلبي في ٢٠١٤ إلى ايجابي، وإن في شكل طفيف. أما الصين، فشهدت تراجع إنتاجية عمالها من 5.5 في المئة في ٢٠١٤ إلى 3.3 في المئة العام الماضي.
وصار سبب تراجع إنتاجية العمال أمراً مقلقاً للسياسيين ومحيراً للخبراء، الذين انبروا لتقديم نظريات مختلفة لتعليل هذا التراجع، والتي يبدو أن أبرزها مرتبط بتزايد الاعتماد على الروبوت، ما يؤدي إلى تقليص الإنتاجية المطلوبة من العمال في الدول المتقدمة.
ويعتقد خبراء بأن وسائل قياس نمو الإنتاج الاقتصادي عموماً، وإنتاج العمال خصوصاً، وسائل صارت قديمة وغير مجدية في قياس النمو. ويقول الخبراء إن فتح عامل لصفحة على «فايسبوك» لغرض تجاري او تسويقي، عمل لا يحتسب في إنتاجية العامل، ولكنه في الواقع جزء من إنتاجه.
نظرية ثانية حول تباطؤ الإنتاج العالمي يقدمها عدد من الخبراء، يتصدرهم رئيس جامعة «هارفرد»، لاري سَمرز، الذي يعتقد بأن الارتفاع القياسي في فاعلية الإنتاج بسبب التكنولوجيا والروبوتات خلق فائضاً صناعياً أكبر من الاستهلاك العالمي، ما يعني أن التباطؤ سيستمر. ويضيف سمرز أن «اقتصاد المشاركة»، مثل سيارات الأجرة «أوبر» وغرف الإيجار «ار بي ان بي»، فاقمت مشكلة الكساد العالمي.
اما السبب الثالث لتراجع الإنتاجية، وفقاً لخبراء آخرين، فيتعلق ببدء عملية حلول الروبوتات بدلاً من البشر في الإنتاج والعمل، فحتى شركة «أوبر» قد تجد نفسها خارج المنافسة إذا ما نجحت «غوغل» في تطوير السيارات الذاتية القيادة، وهو مشروع يتنافس عليه عدد من كبرى شركات السيارات.
وإذا نجحت شركة «أمازون» في تطوير طائرات من دون طيار لإيصال البضائع المطلوبة إلى المستهلكين، وهو ما تعمل عليه حالياً، سيساهم ذلك في مزيد من الكساد بين اليد العاملة في الولايات المتحدة وحول العالم عموماً، إلى حد دفع كبار العلماء، من امثال عالم الفيزياء ستيفن هوكنغز، ورجال الأعمال مثل بيل غايتس وصانع سيارة «تسلا» الكهربائية ألون ماسك، إلى التحذير من مستقبل تسيطر فيه الروبوتات على البشر وحياتهم مستقبلاً.
لكن نظرية حلول الروبوتات مكان البشر مازالت موضع جدل بين الخبراء إذ يعتقد أحد أبرز علماء أوروبا والمكلف بتلقين الكومبيوترات معلومات بشرية، رالف هيربرش، بأن سيطرة الروبوتات على حياة البشر مازال امراً بعيد المنال، وأن الماكينات يمكنها تقليد ما يقوم به البشر، ولكن يستحيل أن تبـادر أو أن تقود ذاتها، على عكس ما يعتقد هوكنغز وغايتس وماسك.
وحتى تعود إنتاجية العمال الأميركيين والعالميين إلى سابق عهدها بالنمو سنوياً، لن يبقى النقاش حول سبب تباطؤ الإنتاج العالمي مستعراً فحسب، بل سيقدم التباطؤ مادة سياسية لسياسيين شعبويين من أمثال المرشحين إلى الرئاسة الأميركية الجمهوري دونالد ترامب والديموقراطي بيرني ساندرز، اللذين يتلاعبان بالأميركيين بتقديم وعود لهم بإغلاق الأبواب الأميركية امام التجارة العالمية، ما من شأنه ان يقلص نمو الناتج المحلي الأميركي، أي أن يفاقم أزمة تباطؤ إنتاجية العمال الأميركيين بدلاً من إعادتها إلى النمو.
لكن الفاشية السياسية لا تبحث عن الأسباب المنطقية، بل الشعارات الشعبوية المثيرة، ما يعني أن تباطؤ إنتاج العمال حول العالم ساهم حتى الآن في دفع خطاب يميني متطرف إلى الصدارة سياسياً، في فرنسا والولايات المتحدة والنمسا، وقريباً ربما في دول أخرى. أما السبب الحقيقي، فما زال البحث عنه جارياً.
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر