القاهرة - وكالات
صدر مؤخرًا عن دار كلمات للنشر والترجمة، بالتعاون مع دار هنداوى، الترجمة العربية لرواية "سجينة طهران" للكاتبة الإيرانية "مارينا نعمت"، وقام بنقلها إلى اللغة العربية سهى الشامى، وقدمت لها الشاعرة والمترجمة فاطمة ناعوت.
بطلة الرواية هى هى الصبية مارينا مرداى بخت، أو مارينا نعمت؛ فتاة مسيحية إيرانية من طهران، كانت تلميذة فى المرحلة الثانوية حينما بدأت رحلة عذابها، بعدما انتزعت من دفء الأسرة إلى صقيع سجن "إيفين" ووحشته، لتجرب ألوان التعذيب الوحشى، وتشهد كل يوم مقتل صبى أو صبية من ورود إيران النضرة، لم يبرحها الشعور بالإثم طوال سنوات حياتها، لأنها نجت حين مات كثيرون من رفقة الصبا وزملاء الدراسة فى مدرستها، ممن تجاسروا أن يقولوا: "لا" حين قال الآخرون: "نعم" وتلك كانت جزيرة وخطيئة فى حكم الملالى الإيرانى.
يضربها الوجع ويطاردها الشعور بالذنب كلما تذكرت أنها كان يجب أن تموت معهم، حيث ماتوا وحين قصفوا فى عمر الزهور البريئة، لولا شجرة الأقدار البديلة التى ترسم خيوط حياتنا على نحو لا يخلو من مصادفات وعبثية واعتباطية وافتقار للمنطق فى كثير من الأحيان، لهذا لم يبرحها يقينٌ بأن حياتها تخص أولئك الموتى، أكثر مما تخصها هى، ولم يكن من سبيل إلى تحررها الذاتى من الأسر وانعتاق روحها من الوزر، إلا بتحرير تلك الذكريات من إسارها فى سجن روحها وخبيئة ذاكرتها، ومن ثم إخراجها للنور إلى حيث الذاكرة الكونية الجمعية، ذاكرات الناس، عبر هذه الرواية الجميلة، الموجعة؛ من أجل أن تطرحها أمام الرأى العالمى، فيعرف من لم يكن يعرف، ما يجب أن يعرف، من أسرار لم تخرج بعد من قلوب الذين قتلوا وعذبوا باسم الله.
تدور قصة مارينا منذ قبض عليها عام 1982، لتسكن معتقل "إيفين" وتعانى الأمرين عامين وشهرين عددًا، مرورًا بزواجها القسرى من جلادها الإسلامى الذى أحبها ولم تحبه، ثم إسلامها القسرى أيضًا، ثم تحررها بمصرع الزوج على يد جلاد إسلامى آخر، ثم أخيرًا، زواجها من خطيبها المسيحى القديم رفيق الصبا حبيبها الذى انتظرها وانتظرته، وحتى هروبها إلى كندا مع زوجها وطفلها عام 1991، هى حكاية جيل الثورة الإسلامية الإيرانية بكل أوجاعها وجراحها وعصير ثمرها المر، والأحلام الموءودة لجيل من الشباب شاخ قبل الأوان؛ تضعها مارينا، سجينة طهران الصغيرة أمام المجتمع الدولى مخضبة بالدم النبيل الذى لا توقف قطره ضمادات العالم، مرهقة بالدموع التى لا تجففها إلا يد السماء الحنون، هى الجزء غير المروى من حكايات طويلة تناولتها الألسن والفضائيات والصحف والمجلدات وكتب التاريخ على نحو إعلامى منقوص، على نهج انتقائى غير موضوعى، هى الشطر المسكوت عنه من بيت شعرى نازفٍ لا يعرف العالم عنه إلا ما أراد له الشاعر، الفاشى، أن يعرفه من قصيدته الملحمية الدامية، مهما كان تقييمنا لأدائه الشعرى الموصوم بالظلم والقمع وسحق الإبادة.
قصة الصبية والصبايا المراهقين فى إيران، ممن بدأ تشكل وعيهم بالحياة مع الأمل فى صوغ إيران أجمل وأرقى وأكثر تحضرًا، تظللها الحرية والديمقراطية والسلام؛ فإذا بهم يعقون فرائس سهلة تحت أنياب التعذيب ومقاصل القتل والاغتصاب وسحق الكرامة، إنها كواليس القصة التى راقبها العالم فى صمت؛ إما عن جهل بما يدور فى الغرف الخلفية المغلقة، أو عن خوف سماع أنين المعذبين وراء قضبان السجون وظلامها، أو ربما عن عدم اكتراث بأرواح بريئة تكشف النقاب عن آلية سحق الأرواح باسم الله، وتحت مسمى أعمال الخير والإصلاح فى الأرض، وهى فوق كل هذا رواية "التحرر" من الخوف، فإن نحن "كتبنا" مخاوفنا "قتلناها"، لهذا تختم الكاتبة روايتها بهذه العبارة "الخوف أفظع السجون على الإطلاق".
وتلقى الكاتبة فى هذا الرواية الضوء على الثورة الشعبية الإيرانية 1979 التى قام بها اليساريون والليبراليون والعلمانيون والمثقفون والعلماء والمدنيون فى إيران، ونجحت فى الإطاحة بشاه إيران المستبد، أملاً فى بناء إيران أكثر تحررًا وتحضرًا وديمقراطية وتصديرًا للعلم، فقفزت التيارات الدينية على الثورة، كالعادة، وجاء أية الله الخمينى ليركل بقدمه الديمقراطية التى أجلسته على الكرسى، مثل منديل ورقى بالٍ أدى وظيفته، وما عاد له إلا صندوق القمامة. بعد توسله إياها، لُفظت الديمقراطية، وحل محلها حكم الفرد، والتحدث باسم السماء، والتغلغل المتسارع فى مفاصل الدولة من مؤسسات حيوية وإعلام وتعليم وقضاء وجيش وشرطة، ثم التصفية الجسدية للانتفاضات الشعبية العديدة التى ثارت على القمع، ثم دهس القانون بالقدم، بعد إقصاء المعارضة بل اعتقالها وتعذبيها وقتلها فى أحد أشهر سجون التاريخ وأبشعها؛ سجن إيفين، الذى لا تقل شهرته عن الباستيل الفرنسى، وأبو غريب العراقى، وباجرام الأفغانى، ومعتقل جوانتانامو الأمريكى فى كوبا، أما جلادو "إيفين" فهم الإسلاميون الذين ذاقوا الويل على رجال "السافاك"؛ جهاز الاستخبارات الإيرانى المخصص لمراقبة معارضى الشاه وتعذيبهم وتصفية قياداتهم بذات السجن، فى عهد محمد رضا بهلوى، شاه إيران، وحينما ترفق بهم القدر وتمكنوا من السلطة خرجوا ليذيقوا الويل مضاعفًا للشعب الذى حررهم، والويلين لمعارضى الخمينى من المدنيين والليبراليين والثوار، أو كل من يفكر فى لفظ كلمة "لا" للفاشية باسم الدين.
وجاء الحرس الثورى الإيرانى "حراس الخمينى ونظامه وليسوا حراس الثورة فى الحقيقة الأمر"وشرعوا فى اعتقال كل من تسول له نفسه"الأمارة بالسوء" أن يمارس حقه الذى فطر عليه فى التفكير والتعبير والاعتراض، لدرجة تورطهم فى اعتقال الصبية الصغار بالمدارس إذا ما اعترضوا على المعلمين الجدد، الذين بدلاً من أن يشرحوا المناهج التعليمية؛ من رياضيات وعلوم وتاريخ وكيمياء، راحوا يشرحون مزايا ثورة الخمينى ووجوب طاعته التى هى من طاعة الله، وامتلأت عنابر سجب إيفين بمئات الآلاف من المواطنين يُجلدون بالسياط، ويذبحون ويشنقون على مدار الساعة منذ الثمانينات من القرن الماضى وحتى اختفى تمامًا صوت آخر معارض لحكم الملالى.
الطريف فى الأمر، كما توضح الرواية، أن الجلاد القاتل من الحرس الثورى كان يقتل مجاهرًا بأنه يسدى معروفًا وجوديًا وتربوياً ونفسيًا للمقتول! كانوا يشنقون الناس فى الشوارع قائلين: إنما نخدمهم بقتلهم؛ كيلا يرتكبوا مزيدًا من الآثام، لأنهم أعداء الله، ما داموا يعارضون أية الله الخمينى؛ وذلك عملاً بأحد شعارات الإمام التى كانت تملأ شوارع طهران ميادينها وغيرها من المدن الإيرانية، حيث يقول نص الشعار "لو سمح للكافر بالاستمرار فى الحياة، لأصبحا معاناته النفسية أسوأ كثيرًا، أما لو قتل المرة ذلك الكافر، فيكون قد حال دون ارتكابه مزيدًا من الخطايا، وبهذا يكون الموت نعمة كبرى له!".
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر