باريس ـ المغرب اليوم
بعد عشرة أعوام على رحيلها، يصدر عن دار نشر غاليمار في باريس، كتاب للكاتبة والصحافية الفرنسية الشهيرة فرانسواز جيرو، عن "سيرتها الذاتية". ويحمل عنوان "قصّة امرأة حرّة". السيرة التي كتبتها المؤلفة في حياتها، كانت بحكم المفقودة منذ فترة طويلة.
لكن إحدى صديقاتها عثرت عليها بعد وفاتها عام 2003، مع ملاحظة من صاحبتها، أنه الأفضل عدم نشرها: "ليس من الضروري أن ننشر كل ما نكتب".
عن الكاتبة:
هي تركية الأصل. لكنها استطاعت ان تفرض نفسها على المجتمع المخملي الفرنسي لتصبح اكثر الباريسيات شهرة واناقة، ومن اشدهن اثارة للاهتمام والجدل. وقد بدأت حياتها بائعة كتب في بولفار «راسباي» بباريس، غير انها تمكنت من ان تقتحم بنجاح مثير للاعجاب عالم الصحافة المكتوبة لتصبح رئيسة تحرير للمجلة النسائية EllE (هي) ثم للأسبوعية «الاكسبريس» عند صدورها عام 1951، ثم كاتبة مقال اسبوعي في «النوفال اوبزرفاتور» التي يرأس تحريرها صديقها الصحافي الكبير جان دانيال. وبنفس الجرأة، دخلت عالم السياسة من بابه الواسع حائزة ثقة اليمين متمثلاً في الرئيس جيسكار ديستان الذي عينها وزيرة في حكومته خلال السبعينات، وعلى ثقة اليسار متمثلا في الرئيس الراحل فرنسوا ميتران الذي اختارها هو ايضا وزيرة في الحكومة التي شكلها بعد انتخابه رئيسا للجمهورية في مايو (ايار) 1981. تلك هي فرانسواز جيرو «المرأة الحرة» كما يسميها اصدقاؤها، والتي توفيت يوم 19 يناير (كانون الثاني) الماضي عن سن تناهز 87 عاما.
حياة هذه الصحافية البارزة، التي ظلت حاضرة بقوة في المشهد الاعلامي والثقافي الفرنسي على مدى 50 عاما هي، بحد ذاتها، قصة مثيرة للدهشة والاعجاب. فقد كان والدها صالح غوردجي، الذي ولد في بغداد، صحافيا معروفا اشرف لسنوات عدة على «وكالة التلغراف العثمانية»، وذلك قبل ان يصدر في باريس عام 1908 جريدة سياسية، كان الهدف من ورائها انتقاد سياسة «الباب العالي» في فترة تداعي الامبراطورية العثمانية، وربما بسبب ذلك صدر بشأنه حكم بالاعدام، ففر بصحبة عائلته الى جنيف، وذلك عام 1914، اي في نفس السنة التي اندلعت فيها الحرب الكونية الاولى. وعندما علم ان زوجته وضعت بنتا ثانية سموها فرانسواز وذلك عام 1916، قال متأسفا وهو يضرب كفا بكف: «يا الهي... انثى اخرى في البيت». وطول حياتها، ظلت فرانسواز جيرو تكن نوعا من الضغينة لوالدها بسبب هذه الجملة. وسوف تحاول ان تثبت من خلال النجاحات التي حققتها في ما بعد، انه ارتكب خطأ فادحا عندما نطق بها.
وبسبب هذه «الجفوة» المبكرة بينها وبين والدها الذي كان على سفر دائم، ارتبطت فرانسواز بعلاقة وثيقة مع امها التي كانت الى جانب جمالها «الاخاذ» و«جاذبيتها التي لا تقاوم» امرأة تتمتع بـ «قوة داخلية خارقة». وعند انتقال العائلة الى باريس، احبت البنت الصغيرة فرنسا. وبمساعدة امها اكتشفت ثقافتها وجمال لغتها، وقوة ادبها، واسرار تاريخها ومميزات حضارتها.
كانت فرانسواز جيرو في سن الخامسة عشرة عندما بدأت تعمل في احدى المكتبات الباريسية، الأمر الذي سوف يسمح لها بأن تلتهم اعداداً وفيرة من الكتب التي سوف تكون الركيزة الاساسية لنجاحاتها الاعلامية والثقافية لاحقا. وذات يوم وقع نظر احد المخرجين السينمائيين على البنت الجميلة ذات الملامح الشرقية، فأدخلها في الحين الى عالم الفن السابع لتلتقي هناك بمشاهير الممثلين والممثلات، وبمخرجين مرموقين من امثال جان رونوار، ومنهم سوف تتعلم ما سوف تسميه، في ما بعد بـ«فن اتقان المهنة». غير ان فرانسواز جيرو سرعان ما ضاقت بهذا العالم وبأهله فهجرته دونما تردد واصفة اياه بـ«السطحي» وبـ«المبتذل» وبـ«الخشن». حتى الممثلات اللائي عملن معها لم ترحمهن. فكتبت عن جان مورو تقول إنها «فتاة سمينة سمراء». وأما عن غابي مورلاي فقالت انها تحتاج الى فريق تجميل كامل لاخفاء تجاعيد وجهها.
ومتبعة نصيحة ممثلة تدعى جوزيت دولي، قالت لها إن «خلاص المرأة الجميلة يكمن في العثور على رجل ثري» قررت فرانسواز جيرو، البالغة آنذاك من العمر 19 عاما، قضاء بعض الوقت في موناكو مع ملياردير له «شكل قرد»، وفي الفندق لم تدعه يلمسها او يقترب منها. وبعد اربعة ايام فرت هاربة بينما كان الملياردير العجوز يغط في نوم عميق. وفي ما بعد كتبت تقول مبررة فعلتها تلك: «كل المهن التي علينا ان نقوم بها، بما فيها السيئة، لا بد ان نقوم بها باتقان تام».
في بداية الحرب الكونية الثانية، تركت فرانسواز جيرو باريس لتعيش عند اختها في جنوب فرنسا. وهناك التقت شارل غوجولت الذي كان يعمل في جريدة: «باري ـ سوار»، ومعه اتفقت على كتابة مقالات وقصص وطرائف سرعان ما حازت اعجاب القراء وتقدير هيئة تحرير الصحيفة المذكورة. وعندئذ احست بأنها عثرت اخيرا على الطريق الذي ظلت تبحث عنه طويلا. غير ان انجابها لولد وهي تخطو خطواتها الاولى في عالم «السلطة الرابعة» بدا عائقا كبيرا بالنسبة لها، فأسرت لأصدقائها قائلة «ان ولدي هذا هو الآن بمثابة الحجر حول رقبتي». وعندما توفي هذا الابن في ربيع عام 1972 في حادث في الجبل، حزنت حزنا شديدا وكتبت تقول: «لقد كرهت نفسي دائما لأني لم احببه، وفي ما بعد احببته كثيرا، بل اكثر من اللزوم. والحقيقة اني لم احببه قط بما فيه الكفاية».
لم تلبث فرانسواز جيرو ان التحقت بحركة المقاومة الفرنسية حيث تم ايقافها لتمضي بضعة اشهر في السجن. وعقب نهاية الحرب الكونية الثانية، التقت فرانسواز جيرو بهيلين لازاراف التي اقترحت على زوجها بيار لازاراف تعيين فرانسواز رئيسة تحرير المجلة النسائية التي كان يعتزم اصدارها، والتي اختار لها اسم: Elle (هي).
بعد عامين من العمل المضني في المجلة، بدأت فرانسواز جيرو تشعر بالملل، وبالرغبة في البحث عن افق آخر يرضي طموحاتها التي ازدادت اتساعا، خصوصا بعد ان عاينت ان بيارلازاراف وزوجته ليسا بقادرين على تلبية ما تريد. فقد كانا محبين للحياة ولملذاتها، وكل نهاية اسبوع، كانا يقيمان حفلات باذخة في بيتهما في الريف يدعوان اليها مشاهير الصحافيين والممثلين والممثلات. وبسبب ذلك باتا مهددين بالافلاس التام، وكانت تعيش الحيرة والقلق لما التقت صحافيا شابا يصغرها بثمانية اعوام يدعى جان جاك سارفان شرايبر، كان قد عمل في جريدة «لوموند» المرموقة واظهر مواهب كبيرة في مجال الاعلام وقدرة فائقة على الالمام بخفايا السياسة الفرنسية، وبكل ما يجري في كواليسها. ومع الصحافي الذي تهيم به حبا، والذي سيصبح في ما بعد واحدا من ألمع الصحافيين الذين عرفتهم فرنسا خلال النصف الثاني من القرن الماضي سوف تصدر مجلة «الاكسبريس» الاسبوعية التي صدر اول عدد منها في عام 1953.
الآن باتت فرنسا بشخصياتها السياسية الكبيرة وبمفكريها وفلاسفتها وفنانيها ونجومها في قبضة الصحافية الطموحة ذات الجمال الذي لا يقاوم. عن هذه الفترة الذهبية من حياتها كتبت فرانسواز جيرو تقول: «قبل دخولي الى مجلة «الاكسبريس»، كنت امرأة متوحشة». ولكن جان جاك سارفان شرايبر تمكن من ترويضي، وقد ادخلني الى وسط كنت اجهله من قبل جهلا تاما، ألا وهو وسط خدمة الدولة الذي تجمع حول الزعيم الاشتراكي بيار منديس فرانس. وفي هذا الوسط تعرفت على رجال كانت لهم معرفة دقيقة بشؤون فرنسا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وكانوا يرون ان مصلحة فرنسا لا بد ان تكون فوق جميع المصالح وفوق كل الاعتبارات. ورغم انه كان يصغرني بعدة سنوات، فإن جان جاك بدا وكأنه تجسيد لوالدي. وربما لهذا السبب كانت له مكانة خاصة في قلبي وفي حياتي».
من خلال مجلة «الاكسبريس»، خاضت فرانسواز جيرو المعارك الكبيرة التي عرفتها فرنسا من الخمسينات وحتى السبعينات. وتقول الصحافية كريستيان كولانج، التي عملت معها في «الاكسبريس» لسنوات عديدة: «كانت فرانسواز جيرو الرأس، وكان جان جاك اليدين. وكان هو عارفا بالسياسة ومجاهلها. اما هي فكانت الصحافية بامتياز».
في عام 1959، انتهت قصة الحب العنيفة بين فرانسواز جيرو وجان جاك سارفان شرايبر. وفي حين قرر هو ان يتزوج بهدف انجاب اطفال، انهارت هي نفسيا ولم تعد قادرة على العمل وعلى التركيز. وذات يوم عثر عليها احد اصدقائها ملقاة على الارض وغائبة عن الوعي، ولم يتم انقاذها من محاولة الانتحار تلك الا بصعوبة كبيرة. وعند تماثلها للشفاء اسرت لإحدى صديقاتها المقربات قائلة: «ان جان جاك هو الرجل الوحيد الذي اسقطني على الارض!».
مطلع السبعينات، تركت فرانسواز جيرو مجلة «الاكسبريس» حاصلة على تعويض مالي خول لها حياة هانئة، خالية من المنغصات العادية. وها هو عالم السياسة يفتح ابوابه واسعة امامها اذ قرر الرئيس جيسكار ديستان تعيينها كاتبة دولة لوضع المرأة في حكومة وزيره الاول جاك شيراك. وفي عام 1976 عينها كاتبة دولة للثقافة في حكومة وزيره الاول ريمون بار. وعن هذه الفترة من حياتها، كتبت تقول: «لقد ساعدني جيسكار، وساندني، خصوصا انه التزم بما كان قد وعد به عند لقائي به وذلك قبل ان اقبل العمل في حكومته. وانا ارغب في ان اقول انه كان السياسي الاول في العالم الذي ادرك ان ثورة النساء لا بد ان تؤخذ بعين الاعتبار. اما الوزراء الآخرون فقد كانوا ينظرون الي كما لو انني هندي بين البيض».ومن وحي تجربتها السياسية تلك، اصدرت فرانسواز جيرو كتابا بعنوان «كوميديا السلطة». وقد لاقى هذا الكتاب رواجا كبيرا لدى القراء، الشيء الذي شجعها على تأليف العديد من الكتب الاخرى التي لاقت نفس النجاح. غير ان الصحافة سرعان ما فتنتها من جديد، فشرعت انطلاقا من مطلع الثمانينات تكتب مقالاً اسبوعيا. وحتى اللحظة الاخيرة من حياتها ظلت تكتب وتكتب وتكتب.
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر