بيروت ـ وكالات
يلعب الشاعر محمود قرني في ديوانه «لعنات مشرقية» على ظلال الحكاية، التي يستلها من عباءة الميثولوجيا، وفي أعلى تراتبها الفني ونزقها الإنساني، وذلك من خلال كتاب «ألف ليلة وليلة».
ولأن منطقة الظلال بطبيعتها منطقة رخوة غير مكتفية بذاتها، فوجودها دائما معلق بالآخر.. بحركة العناصر والأشياء، وتنوع طرائق تشكلها، وتغير مدارات ثباتها وفعاليتها.. الأمر الذي وفر مساحة من المرونة والحيوية للنص وظفها الشاعر بحنكة واقتدار، في حوارية سردية شيقة، لم تفقد جاذبيتها عبر صفحات الديوان المائة والخمسَ عشرة.. بل إن ظلال الحكاية بلدائنها المختلفة أضفت على الديوان مسحة مسرحية، فبدا النص، خاصة في القسم الأخير، وكأنه خشبة مسرح غير مرئية، لصراع يترامى دوما خلف الصورة الشعرية، سواء في حكايات ووقائع الشخوص المسرودة بوعي الحكاية في كليتها وشمولها، أو في تقاطعات الأزمنة والأمكنة، أو في عين الذات الشاعرة المشغولة دوما بالتلصص والتخفي في ما وراء أقنعة ومرايا الظلال.
تبرز هذا المسحة المسرحية على نحو خاص في لغة النص المشطوفة المكثفة بعناية فائقة، فهي لغة سلسة خالصة لنفسها، تعرف مفارقات الفانتازيا ومتعة الخرافة، بل إنها توهم بـ«أسطرة» الحكاية، وتتخذ منها سلاحا للكشف والمعرفة. كما أنها لغة مغسولة من الشوائب الغيرية، تتماهى في أحيان كثيرة مع بنية الفعل الدرامي، حيث لا يسعي النص إلى تثبيت الحكاية في المشهد، بل يقتنصها من فم الزمن ويعيد بناء مشهديتها من جديد، إلى درجة التماس مع نبض اللحظة الراهنة. وهو ما يشف على هذا النحو في قول الشاعر:
«قالوا:
«هنا سوف تُشرعُ الأقلامُ وتُنشرُ الصُّحف هنا سيقف الجراحون أمام المجهر سيقف المهندسون يعبِّدون الطرق ويشيدون الأبهاء سيقف العِلمُ على قدميه دون سحرةٍ أو مباخرَ كذلك..
سوف يسيل الدَّمُ من أفواه الطلاب وهم يلهجون بشعارات تمجدُ العدلَ والحرية».
اللافت أيضا في هذا الديوان هذا التوحد بين يقين الحكاية، ويقين الشاعر نفسه، وكأنهما عتبة ليقين واحد، أو صراعان يشتبكان من أجل إرادة واحدة. ربما لذلك لا يغادر الشاعر نصه، وإنما يتخفي فيه بعين الطفل واللص معا. فحين يصور الشاعر الإحساس بالوجد والفقد الذي تعيشه بطلة الحكاية «ورد الأكمام» لحبيبها «أنس الوجود» يقسِّمُ المشهدَ بين ضمير المتكلم المنادي، على لسان البطلة، وضمير الشاعر الراوي، المضمر في الخلفية. فكأننا إزاء مشهد، يناوش الداخل والخارج معا.. ومثلما يقول:
«يا قرص الحلوى أين عسلكَ يا زين الرجال؟
تنادي وردُ الأكمام على باب المدينة ثم تتحدثُ عن الأضواء ونشوة السكارى وعين العذارى لينات الأعطاف في هزيع الليل تجلس في شرفتها تتحدث عن مجداف العاشق وهو يرافق طائرها الرقيق إلى الأرض الموعودة وعندما تسقط في حجرها نجومُهُ اللامعة تقول له: لماذا أتيت بي إلى هنا؟».
إن الإيهام بالامتداد عبر الزمان والمكان، بالتجاوز والتخطي، يشكل أحد عناصر عالم الرؤية المهمة في الديوان، فالحكاية على الرغم من عباءتها التراثية العتيقة، فإنها لا تزال صالحة لإثارة الدهشة والأسئلة، كما تشي دوما بإمكانية أن يولد الشعر من رحمها، ويمارس حيواته الخاصة، مقتنصا طزاجة الحلم والوجود معا.
هذه الإثارة.. هذه الإمكانية تتوافران بقوة في الديوان، وبصياغات فنية وحِيل جمالية متنوعة، يساعد على ذلك أن النص نفسه يتحول في أحيان كثيرة إلى ما يشبه المصفاة أو البؤرة التي تلم شتات الأزمنة وحيرة العناصر والأشياء. فمن مرآة الماضي يمكن أن يطل الحاضر والعكس أيضا صحيح. كما أن النص على الرغم من تقاطعاته المتوازنة رأسيا وأفقيا، فإنه يتصاعد بشكل دائري، وهو ما يكسب زمن النص حيوية الانفتاح بسلاسة على تخوم البدايات والنهايات، وتصبح الحكاية قابلة لأن تمنحنا نفسها كل يوم بشكل جديد، أو على الأقل، يمكن أن نطل عليها برؤية مغايرة وطازجة من خلال نافذة النص نفسه.
هذه الحيوية الزمنية تنمو بهدوء في طوايا النص، وتتشرّب أنساقه التعبيرية والأسلوبية بروح المتأمل للوحة متعددة الأبعاد والمستويات، حتى إن ميزان الصورة الشعرية، في الديوان يتشكل بصريا وسمعيا من نقطة متعددة الحركة، تتقاطع وتتجاور فيها مشاهد الحكاية وثقلها التاريخي والرمزي.. واللافت أن الشاعر يطعم نصه بين الحين والآخر بضربات واخزة من السخرية والتهكم، تخلص الحكاية من قبضة الزمن الماضي وتمنحها خفة القفز والتحليق خارج أسوار التراث، وقد طالت هذه الوخزات البطلة نفسها، فمن بين أسمائها العديدة في النص تبرز أسماء «بقرة الخلافة» و«الجنية» و«وردة البيت العالي»، ويحول النص هذه الصفات إلى أقنعة ترتديها ورد الأكمام، وتناور من تحتها من أجل الدفاع عن حبها، تناور البشر والطيور والحيوانات، بل تصادقهم أحيانا تحت جناح الحكاية.. يطالعنا هذا الجو بنعومة شديدة منذ بداية النص، حيث يقول الشاعر:
«في مثل هذه الساعة قبل مئات السنين تحدثت (وردُ الأكمام) إلى حيواناتها الأليفة ثم حكت قصة الثعلب الذي خدعَ الحمار وعبر النهرَ فوق ظهره، مضجعا وبين يديه السيجار كما تحدثت عن الغراب الذي ظلَّ يلقي بالحصى المسموم في صحن قائد الجيش معتقدا أنه سيرث بَزَّته» يتضافر مع جو الفانتازيا بوقعه السريالي، لجوء الشاعر أحيانا إلى بنية المشهد على غرار الطبيعة الصامتة، ليلم شتات الحكاية وخطوطها المتشعبة، ويدفع بها إلى نقطة انطلاق أخرى في فضاء النص.. واللافت هنا أن بنية هذا المشهد تشي في داخلها بشرائح متنوعة من التناص المضمر.. مثلما في هذا المقطع الذي يشير ضمنيا إلى أسطورة حواء والتفاحة، أو «الخطيئة الأولى»، لكن النص يمنحها هوية جديدة:
«السكينُ على المنضدة والتفاحةُ إلى جوارها ترتعد ومع ذلك ما زالوا يقذفونني بالخطيئة».
وتتنوع ضربات ولطشات السحرية فوق مسطح النص، حتى يبدو في أحيان كثيرة وكأنه يتعامل مع الواقع الراهن.. ففي معرض حديث الشاعر الافتتاحي عن الأميرة «ورد الأكمام»، بطلة النص، التي هربت من إخوتها دفاعا عن حبها، يشير ضمنيا للمصير الذي آل إليه هؤلاء الإخوة وكأنهم حاضرون بيننا بالفعل.. كأنهم أبطال على مسرح اللحظة الحاضرة:
«سمعنا عن كثيرين منهم يقيمون المصانع ويدخنون الحشيش ويخرجون في نزهات شاطئية ويقولون إن ذلك من أجل الصالح العام وهناك آخرون يتاجرون في السلاح دفاعا عن الأغطية الوثيرة لشعوبهم.
الملصقات الدعائية تملأ الشوارع وترصد الإنجازات رغم أنهم ليسوا في حاجة لذلك».
وعلى عكس الحكاية حيث لا يرتبط أفولها واندثارها باختفاء واندثار أبطالها وابتعاد وقائعها عن مسرح النص، فإن الديوان يشي أيضا بأن سقوط الإنسان مرتبط بسقوط الحضارة، ربما لأنه لم يتقن دوره على مسرح الحكاية، أو لم تتح له الفرصة لذلك، وربما لأنه لا يوجد دور أصلا، وربما لأنه لم يحافظ عليه ويرعاه، ويطوره ويجدده.. ومن ثم، فإن هذا الدور الذي يلح عليه الديوان ويشكل عصب رؤيته الشعرية، هو الدور المشرقي، والطريف أن الديوان لا يطرح هذا الدور في مقابل ثنائية الشرق والغرب التقليدية المعتادة، وإنما يطرحه سؤال هوية، تبحث عن خصوصية أحلامها، وطرائق تشكلها في الوجود والحياة.. كما يبرز في مشهد سقوط غرناطة، ومشهد اعترافات ورد الأكمام تحدثنا عن اختلاط السلالة بعد أن سلمها إخوتها للغزاة، وفي حضور رموز كالبابا أوروبان أول من أطلق الحملة الصليبية الأولى على الشرق، وفي استحضار إدوارد جيبون المؤرخ الإنجليزي صاحب كتاب «سقوط وأفول الحضارة الرومانية». ومن زاوية أخرى، يبرز في استعارة أصوات شعراء، أصبحوا يمثلون رمزا وقيمة حضارية مثل الهندي طاغور والألماني غوته والأرجنتيني بورخيس، ناهيك بافتتانهم، بالروح المشرقية، وتأثرهم بمخزونها الثقافي والحضاري.
ورغم مركزية «ورد الأكمام» ودورها بوصفها بؤرة ومحورا للإيقاع في النص، فإنها تتحول إلى أيقونة مشرقية ويتلاشى صوتها تدريجيا، بينما يصعد من هامش المتن صوت يحكي عن «كائن يحبو على أربع في الصباح، ويمشي في الظهيرة على أربع، وفي المساء ينحني ظهره»، ومن ثم يسدل النص الستار على لسان الطفل الشاعر قائلا: «أيها الشرق الحزين/ لم يسعك العالم الفاني/ فنم قريرا في غسق الأبدية».
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر