دون كيخوتة السلفي
آخر تحديث GMT 06:12:26
المغرب اليوم -

دون كيخوتة السلفي

المغرب اليوم -

المغرب اليوم - دون كيخوتة السلفي

دمشق ـ وكالات

عندما اطلع الصاحب بن عباد أحد مثقفي المشرق العربي في القرن العاشر الميلادي على "العقد الفريد" لابن عبد ربه، قال قوله الشهير: "هذه بضاعتنا ردت إلينا"، في إشارة إلى أنه لم يجد جديدا يمثل عبقرية الأندلس، مما يعني أن المسافة الثقافية التي افترضها كانت أقصر بكثير مما هي عليه في الواقع، والصاحب بن عباد في قوله هذا لا يعبر عن نرجسية ثقافية بقدر ما يؤكد انتشار ظاهرة التأثر والتأثير في كل وحدة ثقافية تتسم بتواشج وتبادل في مكوناتها الثقافية وتراثها المشترك، وهي ظاهرة تسفر عن وجهها للمتلقي المعاصر الذي قيض له مطالعة سفر إبداعي فذ هو رائعة الكاتب الإسباني سرفانتس: "دون كيخوتة".والقارئ الذي يدرك أن في تراثه الثقافي أعمالا سردية تتضمن ذات الخصائص السردية مثل "ألف ليلة وليلة"، و"كليلة ودمنة"، و"منطق الطير"، وغيرها سيجد على الفور أن عمل سرفانتس هو أيضا "بضاعة ردت إلينا" فثمة حكاية هي الأساس وأخرى تستكمل أو تشرح أو تستطرد لتنتج في الأخير مزيجا معنويا لواقعية سحرية ممتدة من عالم سندباد البحري ومغامراته في ألف ليلة وليلة مرورا بالمحادثات الشيقة بين كليلة ودمنة والتي أنطقها الحكيم بيدبا كل ما يريد قوله من حكمة سياسية تتواشج تماما مع ما أراده فريد الدين العطار من وراء رحلة البحث الطويلة عن ملك الطيور وصولا لدون كيخوت وهو يجوب الآفاق بحثا عن ذاته الضائعة.الحكايات مع سرفانتس تتناسل لتؤلف إطارا يجمع شتاتا سرديا يتمخض في محصلته عن واقعية سحرية متخمة بالترهات والبطولات الزائفة، فالعمل بحكايته الأم (الحكاية/ الإطار) وخطها الملتوي والملتف حول سرد استطرادي حينا وسرد هامشي حينا آخر يتطلب جهدا وصبرا في مرافقته لا يقل عما تكبده بطلنا دون كيخوت من تجلد وأعباء ومقالب ومكائد لكي يتوج بلقب الفروسية الذي يطمح إليه.البطل دون كيخوت، الذي ينتمي إلى طبقة النبلاء، حكيم لكنه أحمق، وربما لأنه حكيم بإفراط صار مجنونا، وهنا يستحضر القارئ سريعا ظاهرة البهلول في التراث العربي، فكلاهما يبدي من خلال جنونه حكمة فائقة، لكن بطلنا يمتاز بفرادة فروسيته المتأخرة، حيث يصوره سرفانتس كفارس جوال أراد أن يبعث ثقافة الفروسية وما يرتبط بها من قيم وقواعد وما تمثله من عصر ذهبي يكشف حجم القبح الذي يلطخ عصره الحاضر، وباختصار: ولد دون كيخوت متأخرا، حيث ثمة خطأ متعمد في التحديد الكرنولوجي لحياة البطل، فبدل أن يعيش العصر الزاهر للفروسية تأخر في ولادته ثلاثة قرون، لكنه لم يتراجع بل عزم على مواجهة الحاضر التعيس بانبعاث عصر سعيد، هو عصر دون كيخوته، البطل الذي تأثر بكتب الفروسية الرائجة آنذاك، في القرن السادس عشر، أي في عصر المؤلف الذي سخط من ترهاتها فعزم على فضحها وتعريتها من خلال حماقات دون كيخوت وسذاجة رفيقه سينشو. الحكاية الأم هي إذاً حكاية فارس يجوب الآفاق ليزج بنفسه في أتون المغامرات التي لا تستهدف سوى إغاثة المظلوم ومنع الفساد ومناهضة الرذيلة، حتى وإن قاده هذا الحلم المتهور إلى أن يكون موضوع سخرية واستهزاء من صاحبه الطيب حد السذاجة: سينشو. وعلى امتداد الرحلات الثلاث لدون كيخوت نشهد عالما من التيه والعشق والشجاعة والحكمة وأيضا الجن والمردة التي تحدق وتتربص بدون كيخوت وتمنحه علاجا وهميا لجنونه.إن الغوص في عالم دون كيخوت يكشف السمة الأساسية التي يتمتع بها البطل، فهناك مزيج من الحكمة والحماقة، التهور واللياقة الأدبية، الحب والخيانة، الصداقة أو الإخلاص والمكائد التي تتابع بين الثنائي دون كيخوت ورفيقه سينشو من جهة وبينهما وبين سائر الواقعيين الأذكياء من شخوص الرواية من جهة أخرى: "لا أدري ماذا أقول لك يا ولدي، لقد رأيته يأتي أعمالا لا تصدر إلا عن أكبر مجنون في الدنيا، بينما أقواله من الحكمة بحيث تنسي المرء أفعاله".إنه مزيج مستمر من الحكمة والجنون لأن الخيط الفاصل بين الحكمة والحماقة، بين المثال والواقع، بين الروح والجسد، هو خيط دقيق يكاد ينعدم في هذه الرواية التي تحذرنا من الوقوع في فخ النرجسية، أو وهم دون كيخوت الفارس المقدام والبطل الغيور، حيث صدق الخدعة التي نسجتها الذات لتصبح موضوعا للتندر والشفقة، هذا الانخداع الذي يعمر الواقع أحيانا سيتخذ صورا عديدة في الرحلة الدون كيخوتية الطويلة: انخداع الحب، انخداع الفضيلة، انخداع الباحث عن الحقيقة.. الخ.قد يبدو السياسي أو رجل الدين أو المثقف هو أيضا دون كيخوت، فسرفانتس المؤلف الإسباني الذي كان يحدق في حديقته نحو الفراغ متأملا في كون من العماء والانخداع المستمر والأزلي، يعلمنا أن الواقع غير منزه من السقوط في انخداع أو نرجسية وانفصال عن الواقع ذاته، أي انشطار الواقع وفصاميته، فالبطل هنا مصاب بالشيزوفرينية، بينه وبين الواقع مسافة تفصله عن مولده، فهو لا يعبأ بالحاضر، لأنه مهجوس باستعادة المجد الضائع لزمن ولى ولن يعود، زمن يراد له أن يبعث من جديد.وهكذا فدون كيخوت ماضوي لا يختلف كثيرا عن أي سلفي يريد شطب الواقع لأنه ببساطة مفصول عنه. السلفي كائن شيزوفريني ينتج عالمه الوهمي المعزول عن الواقع وتحدياته وتحولاته، إن صاحبنا المدجج بسلاحه من رأسه حتى أخمص قدميه، الفارس الشجاع والذي ولد متأخرا ثلاثة قرون هو نسخة طبق الأصل عن كل نموذج سلفي منسحب من اللحظة الراهنة نحو ماضٍ عتيد يسقطه على كل اللحظات.السلفية تعني تثبيت، فثمة نموذج قابع في مكان ما من التاريخ الإدراكي للذات، نموذج يتسم بسطوة الأصل، ليرغم الذات الشيزوفرينية على ممارسة منغمسة في تكراره وتوليده المستمر. المحتسب أو الأصولي منشد دائما لفكرة أو فضيلة أو مبدأ يتأصل دائما ويتجاوز الحاضر بوصفه مدان ومتهم بمجافاة المثال الافتراضي، ثمة عجز متأصل عن إدراك جوهر العلاقة الجدلية بين الواقع والمثال، حيث لا بد لكل واقع من مثال يكبح النزوع الواقعي للعدم أو الموت، ولكن من جهة أخرى لا بد للمثال من واقع يحد من طوباويته، هذه العلاقة الجدلية لا يعيها الشيزوفريني، كما يمارس عملية إخصاء دائم للذات حين لا تتجاوب مع حركية الواقع وتبدل حاجاته، إن السلفي وباختصار ميت قبل أن يولد.والسلفية تعني انخداع.. لا يخلو كل سلفي من غرور، فهو مثل صاحبنا دون كيخوت، معتد دائما بأصله الذي لا يتزحزح، ونموذجه الذي لا يأتيه الباطل. إنه معتد بذاته مثل الفتى نرسيس الذي كان لا يرى سوى ذاته فهلك. النرجسية السلفية تتجلى أكثر في ممارسات الإقصاء الناجم عن الوثوق المفرط بالفكرة اليتيمة والمستبدة داخل العالم الذهني، الفكرة التي لا تترك مجالا للتراكم المعرفي الناجم أساسا عن حركة الأفكار المتسمة بطابع ديالكتيكي، والفكرة حين تصبح يتيمة تطغى وتستبد، لكنها تتصاغر عند احتكاكها بفكرة مغايرة وهكذا تتولد الأفكار ويصبح التحول طبيعة مترسخة، تحد من النزوع النرجسي الناجم في أغلب الأحيان عن انخداع أو جهل مركب أو حماقة متأصلة.غير أن السلفي موعود بالصحوة، ولكن بعد خراب مالطة، تماما مثل فارسنا الذي عاد إلى رشده بعد فوات الأوان: "لقد كنت مجنونا والآن صرت عاقلا، لقد كنت دون كيخوته دلا منتشا. وأنا الآن كما قلت لكم ألونسو كيخانو الطيب - وهو اسمه الحقيقي- ولعل توبتي وصدق مشاعري أن يستردا احترامكم السابق لي". لست وحدك الأحمق يا دون كيخوته!

libyatoday
libyatoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

دون كيخوتة السلفي دون كيخوتة السلفي



لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 09:24 2024 الإثنين ,12 شباط / فبراير

تعرف على أبرز إطلالات شرقية فاخرة من وحي النجمات
المغرب اليوم - تعرف على أبرز إطلالات شرقية فاخرة من وحي النجمات
المغرب اليوم - عودة الرحلات الجوية عبر مطار ميناء السدرة النفطي

GMT 16:10 2020 الإثنين ,21 كانون الأول / ديسمبر

الألوان الدافئة والاستلهام من الطبيعة أبرز صيحات ديكور 2021
المغرب اليوم - الألوان الدافئة والاستلهام من الطبيعة أبرز صيحات ديكور 2021

GMT 17:48 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

تمارين تساعدك في بناء العضلات وخسارة الوزن تعرف عليها

GMT 19:14 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

حظك اليوم الأربعاء 2 كانون الأول / ديسمبر لبرج العقرب

GMT 11:55 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

كن هادئاً وصبوراً لتصل في النهاية إلى ما تصبو إليه

GMT 15:33 2020 الإثنين ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم الجمعة 30 تشرين الأول / أكتوبر لبرج الجوزاء

GMT 19:14 2019 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

جون تيري يكشف مميزات الفرعون المصري تريزيجيه

GMT 17:27 2017 الإثنين ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

وضع اللمسات الأخيرة على "فيلم مش هندي" من بطولة خالد حمزاوي

GMT 22:05 2019 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

إليك كل ما تريد معرفته عن PlayStation 5 القادم في 2020

GMT 05:54 2017 الأربعاء ,12 إبريل / نيسان

بسمة بوسيل تظهر بإطلالة العروس في أحدث جلسة تصوير

GMT 09:38 2017 الخميس ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

خلطات منزلية من نبات الزعتر الغني بالمعادن لتطويل الشعر

GMT 16:41 2020 الجمعة ,24 كانون الثاني / يناير

لمحة فنية رائعة من صلاح تسفر عن هدف

GMT 12:21 2020 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

محمد يتيم يعود للكتابة بالدعوة إلى "إصلاح ثقافي عميق"
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya