دمشق - سانا
يعد بول غوغان من أوائل الفنانين الذين لفتوا الأنظار للفنون البدائية وذلك برحلته إلى تاهيتي التي لاقت رواجاً في الفن الحديث ومهدت الطريق لظهور ما يسمى "المدرسة الوحشية" إذ خرجت على التقاليد وأثرت في الفن المعاصر الذي ظهر بعد ذلك ومدارسه التكعيبية والتجريدية والرمزية فذلك الفن عده النقاد أول من أعاد للفن مهمته القديمة بعد اتصال الفن الأوروبي بالطبيعة العذراء التي لم تقتحمها الحضارة.
العامان اللذان قضاهما غوغان في أحضان الطبيعة الباسيفيكية قبل أن يعود إلى ضجيج الآلة في فرنسا كانت كفيلة بأن يتخذ قراره النهائي في العيش على جزيرة تاهيتي التي عشقها وعشق طبيعة حياتها الفطرية متخلياً من أجلها عن الحضارة الباريسية وحياة المدن بشكل نهائي فتلك الطبيعة المتوحشة كما وصفها بعض النقاد كانت المحرض الأساس لما أنتجه الفنان الفرنسي لاحقاً من لوحات فنية وأشكال خزفية وغيرها والتي دونها في يومياته التي وقعها باسم "نوا نوا.. يوميات هيتي".
ويروي غوغان في كتابه الشيق أحداثاً واقعية خبرها في الحياة البدائية الصافية قبل أن يحورها المستعمر ويعبث بعذرية طبيعتها فلم يقع الراوي في جمال العرق التاهيتي فحسب بل أثارته العظمة وأقنعته العراقة بأنها خالدة لن تختفي ببساطة فالعادات الطبيعية العفوية والمعتقدات المتأصلة بقيت على الرغم من محاولات الفرنسيين تشويهها وطبعها بطباعهم ليغرسوا قيماً بديلة كانت البعثات التبشيرية تخفيها بين مواعظها ونصحها ليتبين للقارئ أن تلك المحاولات كانت السبب الرئيس في انسحابه من بابيتي التي حولها تجمع الجنود والتجار إلى مدينة بديلة وسبب فراره إلى تجمعات قبائل التاهيتيين المتناثرة والبعيدة.
يقول غوغان عن تلك التجربة الفريدة في الكتاب الصادر حديثاً عن دار رفوف بدمشق "في الغابة الموحشة والليل التاهيتي الصامت الذي يسمح لك أن تسمع ضربات قلبك من دون أن يعكر ذلك ضجيج الآلة وصخب الحضارة.. في كوخ لا يفصلك عن الحياة أو عن اللامتناهي المطلق إلا سقف هش من أوراق الكاذى.. كوخ يمنحك حرية خاصة تختلف عن إغراء أسر المنازل الأوروبية حيث الطبيعة السخية التي لا ترفض لسائل طلباً.. فلن تحتاج الأوراق النقدية.. وما عليك إلا أن تغوص بالماء لتقتلع الأصداف والكنوز البحرية أو أن تتسلق الأشجار المحملة بالغنائم حتى تشعر بدونيتك كرجل حضارة".
هكذا نمضي مع كتاب غوغان الذي نقلته إلى العربية المترجمة السورية أبية حمزاوي إلى عالم المتوحشين وعالمهم السحري السعيد الآمن الذي لم تتحكم به المادة بعد فالطبيعة وحدها المسؤولة أن تمنحك كل شيء وهي بمتناول الجميع لا مكان للمتاجرة ولا للاستغلال مع سكان بشرتهم داكنة لكن قلوبهم بيضاء يشاركونك فرحهم وحزنهم وكسلهم ومتع الحياة الحرة بعيداً عن كل شيء مصطنع أو مبتذل.
يوضح الكاتب كيف يتجلى لك الدخول في حقيقة الطبيعة التي تجعل المرأة مساوية للرجل بشكل فطري من غير حضارة وحقوق إنسان غائبة أو مستغلة فالشراكة هناك في كل شيء الحقوق والواجبات تقارب بين الجنسين ما يجعل العلاقات الاجتماعية سهلة كحالة التعري الطبيعية الدائمة التي أبعدت عن أذهانهم مسألة الغموض التي تولد توتراً شديداً لدى الشعوب المتمدنة إلى النقاء الكامل في العلاقة بين الذكر والأنثى فلا تشاهدهم إلا رفاقاً وأصدقاء يتشاركون في الأفراح والأحزان.. يحلمون يحبون يغنون يصلون معاً.
لا شيء يقلق راحة الناس في تاهيتي ولا حتى الضمائر الفاسدة فنحن أمام عالم من الغموض والسحر فهمه الفنان بأحاسيسه لكنه عصي وغائب عن العقل قبل أن تدخل الشابة التاهيتية /تهورا/ حياة غوغان وتقوده إلى الفهم الكامل لطبيعة الحياة والبشر التي استوطنتهم البدائية في عالمهم فالزوجة الصغيرة كانت تحفظ أسماء جميع الآلهة التاهيتية ويرقد داخل جسدها النحيل أجداد وأسلاف يحلمون ولم تستطع البعثات التبشيرية أن تمسح من ذاكرتها التاهيتية الآلهة القديمة ولا أسماء الأسلاف وقصصهم فمنها تعرف غوغان على قصة الخلق حسب الديانة التاهيتية وكيف خلقت آلهتهم العالم وحكموه ونصبوا أنفسهم أسياداً أقوياء مكرمين عليه حيث روت للفنان الفرنسي قصة زواج الآلهة وولادة الشمس والقمر والنجوم والغيوم والمطر والنبات .. وكيف تزوج الإله "تارووا" مع المرأة "أوهينا" آلهة الهواء وولد لهما قوس قزح ومطر أحمر.
ويتابع غوغان سرد أساطير زوجته التاهيتية والغضب الإلهي ودور كل إله وعمله حتى نصل إلى السماء السابعة حيث النور نهاية السموات أسطورة لم نسمع بها أو نعرفها من قبل أو نتوقع وجود الإله "هيرو" إله اللصوص في تلك الجزيرة فهي قصص وحكايات اعتبرها الكاتب مادة جذابة وغنية للدراسة والتحليل لنرى فيها قبل كل شيء مبادئ ديانة تقوم على عبادة قوى الطبيعة.. الأمر الذي اعتبره المؤلف أمرا مشتركاً بين كل الديانات البدائية غير أن معظم آلهة "الماووري" التاهيتية هي تجسيد لعناصر الطبيعة والحياة.
ولم تكن الأسطورة التي خلدها غوغان في كتابه من اختراع الصحف ولا من الخيال بل كانت موثقة عبر رسائله ولوحاته حول العالم وجزر الكاريبي من خلال علاقة نسجها عن قرب مع الطبيعة البدائية التي آمن بها وبطقوسها ووقع تحت تأثيرها باحثاً عن قضايا الإنسان الأساسية من ولادة وموت وجنة وعري وحياة فعلاقة الإنسان مع الطبيعة والقوى الخارقة من داخل عالم عده بدائية طازجة كان بديلاً عن عالم القلق الذي فرضته الحضارة الرأسمالية التي سعت لطمس بقية الحضارات.
وفي هذا يقول غوغان .. "على أرض تاهيتي كنت أرى أمامي أوروبا التي هربت منها معتقداً بأنني قد خلفتها ورائي إلى الأبد ففي ظل التأثيرات الطاغية للطبقة الأوروبية المستعمرة ساد التقليد الفج الذي يصل حد المهزلة وتشويه العادات والتقليعات ومختلف مظاهر الحياة الأوروبية فهل قطعت كل تلك المسافات لأجد أمامي الشيء ذاته الذي دفعني للهروب...".
إذاً هي ممارسة السلطة الاستعمارية المبنية على عملية تغيير حياة السكان وطبيعتهم ومفاهيمهم وغرس قيم جديدة في العقول البدائية المتوحشة والمفعمة بالجمال عن طريق البعثات التبشيرية والاجتياح الأوروبي فما أنجزه التاهيتيون بعد ذلك ينم عن ذوق فاسد نتيجة احتكاكهم مع المدارس الفنية الأوروبية حسب رأي غوغان حيث أثرت تلك المدارس في معالم حضارة متفردة وعريقة ليتحولوا إلى متوحشين بالمعنى الذي يفهمه الغرب.
يقول غوغان سارداً ذكرياته في تلك الجزيرة .. "كان رسم الأشياء كما أراها أمراً بسيطاً للغاية.. أن أضع من دون حسابات معقدة الأحمر قرب الأزرق فلقد سحرتني الأشكال الذهبية عند الجداول وعلى شاطئ البحر ولكن لماذا ترددت في وضع عظمة الشمس وروعتها على قماش الرسم...إنها التقاليد الأوروبية العريقة... أو قل هو الخوف والخجل من التعبير عن شعوب متدنية كي أعتاد الملامح الخاصة للوجه التاهيتي تمنيت طويلاً أن أرسم وجه إحدى جاراتي وكانت امرأة تاهيتية شابة ذات يوم استجمعت الجرأة الكافية ودخلت كوخي وبدأت تنظر إلى لوحات كنت قد علقتها على أحد الجدران نظرت إلى لوحة "أولمبيا" وتمعنت فيها لفترة طويلة وباهتمام خاص فقررت رسمها".
ويتابع رائد الوحشية الفنية .."عملت بسرعة وهوس فقد كنت مدركاً أن إذعانها لرسمي لها لم يكن كليا فارتعشت وأنا أقرأ في تلك العينين الواسعتين الخوف والرغبة في معرفة المجهول.. حزن التجربة المرة التي تكمن في جذور كل متعة.. الشعور العفوي المكتمل بكونها سيدة نفسها.. مثل هذه المخلوقات توهمنا بأنها تخضع لنا حين تمنح نفسها ولكن في الواقع المرأة التاهيتية تخضع لنفسها فقط وتكمن فيها قوة تفوق قوة البشر العادية ففيها شيء حيواني مقدس".
يذكر أن القارئ يقع في نهاية الكتاب على بيبلوغرافيا عن المحطات المهمة في حياة بول غوغان منذ ولادته في فرنسا وحتى وفاته قبل شهر من عيد ميلاده الخامس والخمسين كما يعرض الكتاب مختارات من أعماله الفنية تحت عنوان اختاره غوغان نفسه باللغة التاهيتية هو.. "نوا نوا" وهي تعني.. "إننا نفوح شذى".
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر