الرباط - وكالات
فى روايته الأخيرة الصّادرة فى كلّ من أمستردام وبرشلونة بعد نقلها مؤخّرا إلى اللغة الإسبانية ” بيت صيفيّ به مسبح “، ما زال الكاتب الهولاندي هيرمان كوش مستمرّا فى مشروعه الأدبي لتعرية المجتمع الذي يعيش فيه ، ووضعه أمام المرآة لفضح العديد من القضايا والمواقف التي يعتبرها هذا الكاتب تجاوزا سافرا من طرف المجتمع ، كالنّفاق الإجتماعي المتفشّي فى كنف الأوساط البرجوازية، والخلافات أو المواجهات التي تنشب بين الآباء وأبنائهم تحت ذريعة الحفاظ على الأخلاقيات، ومراعاة الأعراف السّائدة التي لها صلة بالتربية والسلوك في حظيرة المجتمع المعاصر، ممّا يفضي إلى نوع من التصادم والمواجهات والمشاكسات بين الطرفين قد تؤدّي فى بعض الأحيان إلى نتائج وخيمة غير منتظرة ولا مستحبّة قد تصل إلى حدّ القطيعة .
بين الآباء والأبناء
تشير الكاتبة الإسبانية ” روسّا مورا” : أنّ الكاتب الهولاندي فى هذه الرّواية يستمرّ فى نفس الخط الذي بدأه منذ سنتين فى روايته “العشاء” التي لقيت ترحابا كبيرا من طرف القرّاء والنقّاد على حد سواء،والتي تحكي قصّة ثلاثة مراهقين كان فى نيّتهم القيام بسرقة شبّاك أوتوماتيكي كان يوجد عند مدخل أحد البنوك، فوجدوا إمرأة متشرّدة نائمة تحته ممّا عرقل عملية السّطو على الشبّاك ، فقرّر هؤلاء المراهقون قتلها. وتؤكد الكاتبة الإسبانية أنّ هذه الأحداث تشبه إلى حد كبير ما وقع بالفعل فى مدينة برشلونة عام 2005 حيث أقدم شابّان مراهقان وثالثهما قاصرعلى إضرام النار فى متشرّد داخل شبّاك مصرف أوتوماتيكي كذلك”.
تدور أحداث هذه القصّة خلال عشاء فى أحد المطاعم بحضور آباء المراهقين المتورّطين لدراسة هذا الموضوع ، والذين كانوا جميعهم ينتمون إلى الطبقة العليا فى المجتمع ، حيث كان يوجد من بينهم شخصية سياسية مرموقة كان مرشّحا لمنصب الوزير الأوّل.
وتعالج الرّواية الجديدة لهذا الكاتب موضوع النفاق الإجتماعي السائد فى الأوساط الرّاقية والمعاملات والعلاقات الاجتماعية القائمة بين الأفراد والجماعات ، فضلا عن صعوبة التواصل والتفاهم بين الآباء الأبناء فى المجتمعات المعاصرة فى هولاندا وفى أوربا بشكل خاص، وحدود الحريّة الجنسية ،والشعور بالذنب فى مجتمع يعرف تفسّخا وإنحلالا كبيرين فى العلاقات بين الأسر من جهة ، وبين الآباء والأبناء من جهة أخرى. ويبدو لنا الكاتب فى هذه الرواية الجريئة وكأنّه يضع مجتمعه تحت مجهر لتعريته وتشريحه، وفضح عيوبه ونقائصه.
يتعلق الأمر بطبيب (مارك سلوسر) له عيادة فى أمستردام يوحي مظهره بأنه طبيب ناجح ذو خلق وإستقامة، ولكن حقيقته ليست كذلك حيث سينكشف أمره عندما سيوجّه له أحد المتردّدين على عيادته من الممثلين المشهورين والميسورين( رالف مير) دعوة لقضاء بضعة أيام صيفية فى منزله الكائن على السّاحل المتوسطي به مسبح جميل مع أبناء الأسرتين الذين ما زالوا فى طورالمراهقة ، وخلال وجود الطبيب هناك سيقع حادث خطيرلإبنته ذات الثلاثة عشرة ربيعا،عندئذ سيقرّرالأنتقام ممّا سيفضي الى إلغاء هذه الرحلة الإستجمامية الصيفية ، وحدوث تغيرخطيرفى العلاقات بين الأسرتين.
وتوعز الرّواية فى خضمّ هذه الأحداث المتواترة والمتشابكة والمتصاعدة أنّ أيّ أحد من شخصيات الرّواية يمكن أن يكون مذنبا، ولا أحد يمكنه أن يدّعي أنه بعيد أو لا دخل له بما يحدث، حتى وإن كان مظهره أوتصرّفه يوحيان بالطّيبة والبراءة من الوقائع و الأحداث التي عرفها هذا المنزل الصّيفي الذي يتوسّطه مسبح جميل.
لا يفلّ الحديد إلاّ الحديد
الكاتب هيرمان كوش بارع فى حبك الأحداث وتطوّرها والتعقيدات التي تطرأ عليها فى نسق مثير ومتصاعد، لدرجة أنّ القارئ لا يفلت منه ليعرف حقيقة ما يجري فى هذه الرّواية حتى الصفحة الأخيرة منها.
إنّ الرّوائي يتصارع مع واقع بلاده ويواجه مجتمعه، إنه يتحرّك –كما يعترف بذلك هو نفسه- بطريقة تلقائية وعفوية في قصصه ورواياته. ولكن معالجته لهذه المعضلات الإجتماعية روائيا تتّسم بالجرأة والحزم والقوّة ،أيّ فى مستوى صخبها وعنفها وقساوتها فى غالب الأحيان ، فلا يفلّ الحديد إلا الحديد. إنّه يسير فى نفس الدّرب الذي يسير عليه كتاب مثل السّويديّون ماخ سخوال ، وبير واهلو، وهنينغ مانكيل، أو ستيغ لارسون، الذين إختاروا هذا النّوع الأسود من الحكيّ لفضح العيوب والنواقص فى مجتمعهم وبلدانهم كذلك التي تبدو للناس من بعيد وكأنها جنّة للعيش الرغيد،كما يسيرالكاتب على وتيرة مجموعة كاليفورنيا من كتاب القصّة مثل رايموند شاندلر، وروس ماكدونالد ، وجيمس إيلروي،وميكايل كونيلي الذين يدينون بقوّة هم الآخرون سوء إستخدام أو إستعمال العدالة فى بلدانهم، فضلا عن فضحهم للفساد الإداري والبوليسي والسياسي فيها،بل إنّنا يمكننا أن نضع هيرمان كوش فى مصافّ الرّوائيين الأربعة المتوسّطيين(المنتمين لبلدان حوض الموسّط) على وجه الخصوص الذين لهم باع طويل كذلك فى هذا الصنف من الإبداع وهم: مانويل فاسكيس مونطالبان، وجان كلود إيزو، وأندريا كاميليري، وبيطروس ماركاراريس وسواهم الذين يشرحون أويشرّحون زمنهم بغير قليل من الجرأة والصّراحة.
إنّ الفنّ الرّوائي عند ” كوش” يقوم على ثلاثة محاور رئيسية وهي: وصف البورجوازية في بلده،ورصد مشاكلها الإجتماعية ،ومعالجة إشكالية العلاقات بين الآباء والأبناء، ففي روايته السابقة “العشاء” يثيرالأنتباه إلى النظام التربوي فى بلاده ، كما يطرح فى نفس هذه الرّواية التساؤل التالي: إلى أيّ مدى يمكن أن يصل الأمر بالآباء فى حماية أبنائهم ؟ وهو نفس السؤال الذي يعود ليطرحه من جديد فى روايته الأخيرة “منزل صيفي به مسبح”.
وتؤكد ” روسا مورا” أنّ هذه القصّة في الواقع تشكّل ثلاثية روائية هي إمتداد كذلك لرواية أخرى له يعالج فيها قصّة أب من عائلة متوسّطة ينساق وراء صديق قديم له منذ أيام الدراسة، تحوّل فيما بعد إلى رئيس عصابة خطيرة، وهذا الأب يورّط إبنه معه كذلك الذي لم يتجاوزالخمسة عشرة ربيعا فى هذه الورطة.
مجتمع آيل للإنهيار
يدين ويندّد هيرمان كوش فى روايته الأخيرة كذلك النظام الصحّي فى بلاده، يتساءل الدكتور “مارك سلوسر” بطل هذه الرّواية: كيف يعقل أن يكون فى بلد فاحش الثراء مثل هولاندا قوائم إنتظارطويلة فى المجال الصحّي ؟ هذا الطبيب ضاق ذرعا ، لأنّ شيئا مّا ليس على يرام أمسى يعتري النظام الصحّي فى هذا البلد، ،و لابدّ أنّ هذا النظام سينهار من الفوضي لو بعث كلّ طبيب عام بمرضاه كلّ يوم الى الإخصّائيين والمصحّات . وهذا ما يحدث مع الولادات أيضا حيث ينصح بأن تتمّ فى المنازل بطرق طبيعية وتقليدية.ولهذا فإنّ نسبة الوفيّات لدى المولودين حديثا فى هولاندا هي الأعلى فى أوربا كلها، بل إنها أعلى حتى من جزر المالديف.
تفاجئنا فى الرّواية شخصية مثيرة للجدل والتساؤل، إنه عالم الأحياء المسمّى ” هارون هيرزي”، (وهو يمثل صوت اللاّوعي أو الضمير الخفيّ للطبيب) الذي يصرّح ويقو له ما لا يجرؤ الآخرون على قوله بصوت جهوري:” لقد قمت بما كان ينبغي عليك القيام به،وما يجب أن يقوم به كل أب . ويضيف قائلا للطبيب :” للأب دائما نوايا حسنة، وواجب لا مناص منه وهو حماية إبنته ، ولكنه لا يضع فى حسبانه حقوق الآخرين”.
إنّ” هيرمان كوش” يشعر بنوع من القلق من جرّاء الأزمة التي أضحت تعصف بأوربا اليوم ،يقول:” إنّنا فى هولاندا نعاني من الأزمة كذلك ، ولكن أزمتنا أقل حدّة وتفاقما من إسبانيا” ، كما يشير:” إنّ بلدانا مثل الصّين والبرازيل أو بعض بلدان أمريكا اللاتينية سوف يهيمنون على العالم، الواقع أنّنا نعيش فى الوقت الراهن فى أوربّا فى كنف مجتمع أو ثقافة أوحضارة آيلة للسقوط والإنهيار.
يعتبر هيرمان كوش(1953) من الكتّاب البارزين المعاصرين فى هولاندا ، حقّقت رواياته نجاحات متوالية فى بلده، كما أحرز بعضها على جوائز أدبية هامّة، وترجمت إلى بعض اللغات الأوربية منها الإسبانية.
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر