رواية صيف جليدي تشييع اليقينيات والعودة إلى الذات
آخر تحديث GMT 06:12:26
المغرب اليوم -

رواية "صيف جليدي" تشييع اليقينيات والعودة إلى الذات

المغرب اليوم -

المغرب اليوم - رواية

الرباط - وكالات

منذ نهاية الثمانينات من القرن الماضي بدأ القارئ المغربي يتعود على اسم عبد الإله بلقزيز كباحث ومفكر مهووس بقضايا الأمة العربية ، ومدمن على الاهتمام بإشكالاتها المزمنة ، المتمثلة في الوحدة، والديمقراطية ، والأمن القومي، والحداثة ، والصراع العربي الإسرائيلي ، ومختلف التساؤلات الكبرى التي تؤرق المفكر العربي المعاصر وهو يبحث في كيفية تجاوز واقع التأخر التاريخي الشامل والعميق . وبعد مسار أكثر من عقدين في هذا الاتجاه من الكتابة النظرية الأكاديمية ، والمتابعة الصحفية الدقيقة ، يفاجئنا بلقزيز سنة 2010 بإصدار من موع خاص تمثل في نص (رائحة المكان معلنا بذلك اقتحام عالم آخر من عوالم الكتابة الإبداعية . لكن الشعور العام لدى القارئ وأن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد نزوة عابرة .غير أن صدور رواية صيف جليدي سنة 2012 أكد بالواضح أن الكاتب اختار عن سبق إصرار وترصد، الانفتاح على وجه آخر من وجوه الكتابة الإبداعية المتجسدة في الرواية. وهذا في اعتقادي ليس بجديد عن الكثير من مثقفي المغرب باختلاف مواقعهم الفكرية كعبد الله العروي ، وأحمد التوفيق ومحمد برادة، وبنسالم حميش .صيف جليدي : عتبة عنوان تستحق الانتباه والتأمل .فبالتأكيد أن مفكرا تمرس على التوظيف الدقيق للمفاهيم، لن يكون اختياره اعتباطيا حتى لو تعلق الأمر بمجال مفتوح على كل أشكال التخيل. لهذا العنوان كل مبرراته في نسقية النص الروائي بأحداثه وشخوصه وتفاعل جدل المتخيل والواقع فيه . إنه عنوان المفارقة والتناقض بين صيف يحيل إلى الحرارة والعطش والعرق ، وجليد يرتبط بالبرودة والانكماش والارتعاش . وبالتأكيد فإن الأمر لا يتعلق بإحالة طقسية مناخية ، بل بتشخيص عميق لتناقضات في أحاسيس البشر ومشاعرهم، وكيفية تفاعلهم مع الأحداث الكبرى كالموت، الاعتقال، الحب لأخ. إن قراءة هذه الرواية تدفع إلى طرح تساؤل مشروع: كيف لباحث تعودناه أكاديميا ، مدمنا على الكتابة النظرية بصرامتها وجفاءها المنطقي ، أن يهدينا نصا بهذه الغزارة المثيرة في الأحاسيس ، والتدفق الهائج في المشاعر، والغوص العميق في النفسيات . إن هذه الرواية ومن خلال شخصياتها المحورية ، السارد علي الزهراوي تعكس وتقدم تجربة جيل من شباب مغرب الثمانينات من القرن الماضي ، مغرب الاعتقالات والمحاكمات، وانسداد الأفاق ... جيل كان يحلم بغد مشرق، غد العدالة والمساواة والديمقراطية ، والحداثة .وبالتالي فإن هذه الرواية تنبش في الذكريات ، تقلب المواجع ، تضغط على الجراح ، وتحسب تلك المسافات الفاصلة بين الحلم والواقع ، الممكن والمستحيل ، المعيش والمنتظر . ينقلنا السارد على الزهراوي باعتباره الشخصية المحورية التي تحرك كل شيئ في هذا النص ، إلى عوالم متعددة عاشتها بالتأكيد المئات من الأسر المغربية في سنوات الرصاص ، مع الاختلاف في تفاصيل الأسماء والأشخاص ، ونوعية الطموحات والعلاقات . ستكون أسرة عليى نموذجا مثيرا يعرض من خلاله السارد جزئيات وتفاصيل دقيقة وبليغة بكم هائل من الإحساس ، من الأمل والألم . المبتدأ والخبر في هذا النص هو تجربة الاعتقال التي يرويها السارد حين جرته حوادث وإضرابات 20 نونبر 1981 ، لإلى أن يصبح نزيل مخفر سري ، بعد زيارة ليلية خاصة جدا، في إطار حملة شرسة ضد المئات من المناضلين الحزبيين والنقابيين ، والمتعاطفين . من هنا تبدأ الحكاية : تحول جدري من حال إلى حال ، وشروع في حلقات طويلة من مسلسل رهيب من التعذيب ، والتحقير، والقهر بكل أشكاله الجسدية والسيكولوجية في تجربة الاعتقال يكبر الامتحان: كيف تواجه تسلط وبطش الجلاد ، وكيف تدبر محنة فراق الأهل والأحباب ؟ عذاب مزدوج فعلي الزهراوي ترك أبا يحتضر ، وقلب أم ينفطر ، وعشق حبيبة تنتظر ، وعلاقة أخوية مطبوعة بالاحترام والمحبة والتقدير ... وبجانب كل ذلك ترك وظيفته مصدر رزقه وإعانة أسرته . كان من الطبيعي إذن أن يضعنا السارد أمام هذه النفسية المشحونة بالأحزان ، حيث تتأجج المخاوف ، وتكثر التساؤلات، ويطول حبل الانتظار والترقب :» متى ينتهي هذا الشطط الجنوني في سلوك السلطة ويرتفع هذا العبث بمصائر الناس». ومع تجاوز علي لمرحلة الاعتقال السري ، وبعد أن حوكم بسنتين ونصف ، سيحل نزيلا بسجن بولمهارز بمراكش ، وبالرغم من ما يتضمنه هذا الانتقال من تغيرات ايجابية ظاهريا ، فإن مشاعر الحزن والحرقة والعجز ، تكبر وتكبر ليتحول فضاء السجن إلى عذاب مستمر تغذيه الذاكرة بما تخزنه من وقائع وأحداث :»أكتشف متأخرا أن معنى السجن يتضاعف أكثر حين تدنو من المرء الفضاءات والأمكنة والأسماء التي اقترنت عنده بالحرية، تتسع عندها مساحة الشعور بالعجز والمنع (...) ما اقسى الذكرة في مثل هذه اللحظات التي يعيشها تصبح عبئا على الحياة تقيلا تعتسر معه أي محاولة للمصالحة - ولو الاضطرارية - مع الأمر الواقع مثلما هي تتعصى عليه في سجن بولمهارز»4 في اللسجن يتعمق عذاب الانتظار، يتطلع إلى زيارة، إلى رسالة ويترقب مصير علاقته بحبيبته بعد أن تطاولت عليها الأسوار الإسمنتية، وانتصبت أمامها القضبان الحديدية. في السجن تكثر الهواجس، تتناسل الأسئلة ، وتتضخم العودة إلى الذات ويعود للجزئيات تقلها، وللتفاصيل أهميتها. هو صراع مرير يغذيه تفاعل ذكريات الماضي بوقائع الحاضر وتطلعات المستقبل المجهول. رحلة عذاب علي لن تنتهي حين تق لحظة الإنعتاق من السجن الأصغر، فعذبات السجن الأكبر تنتظره... تبدأ بزيارات التهاني اليومية الثقيلة التي لا تخلو من شماتة البعض وأسئلة خبيثة من البعض الآخر وتنتقل إلى ذلك الإحساس الجارح بغياب الأب بفقدان العمل لنصل إلى رصد التغيرات التي طرأت على أقرب الناس من إخوة وأصدقاء وأحباب: أخوه إبراهيم حول المحاماة إلى مصدر للارتشاء والتلاعب والدفاع عن أباطرة المخدرات، أخته سميرة طريق الحجاب وأنعزلت عن الحياة، منسلخة عن وداعتها وانفتاحها، وحبيبتها ليلى صارت مجرد ذكرى للحب والعشق، والبعض من مناضلي الأمس القريب تنكروا لما كانوا مؤمنين به محولين اتجاهاتهم بالتمام والكمال؟ الحرية التي انتظرها علي لتمنحه السعادة جاءت لطعم المرارة، والخيبة، والألم:»يعرف على التحقيق من التجربة الشخصية كما في الكتب أن الذي يتذوق طعم الحرية هو من أضاعها أو أضيعت منه لكنه يعرف أيضا أن الحرية لا تستعاد لمجرد أن بدنا محبوسا في قفص حديدي أفرج عنه ماذى عن النفس المأسورة في أصفاد أحكم إغلاقها؟ ماذا عن القلب الكسير النازف من جرحه؟». وبالرغم من كل هذا القلق، هذا الشعور العارم بالخيبة والإحباط والفشل، ظل علي متماسكا مشبعا بروح النقدية لا تكف عن التساؤل والتأمل والمراجعة ظل يحلم وينتظر ذلك الغد الذي ناضل من اجله غد لن يكون قريبا بالتأكيد، لكنه آت لا محالة. لقد وضع السارد خطا فاصلا بين القلق واليأس نعم هو قلق إلى أبعد الحدود مصدوم بقوة من تبخر الكثير من أحلامه الوردية على صخرة واقع رمادي انهارت الكثير من الصور والقيم الجميلة داخل أسرته، مع عشيقته، بين أصدقائه ورفاقه. كيف لا يقلق أيضا وهو يرى ما حدت في العراق وفلسطين وكيف تقوى الزحف الامبريالي بعد سقوط جدار برلين وانهيار المعسكر الاشتراكي: « لست حزينا على النهاية البائسة لغورباتشوف ولا على انهيار «المعسكر الاشتراكي» والاتحاد السفياتي لكني حزين لأن رقعة الرأسمال ستتسع في الأرض بعد الذي جرى، ولأن الوحش الأمريكي الكاسر سيصبح حرا طليقا». في خضم هذه النفسية المكتوية بنيران الحزن والقلق، يستدرجنا السارد إلى وقفة خاصة مليئة بالمعاني والدلالات، وذلك حين يستحضر لحظة توديعه للقائد الاتحادي الوطني عبد الرحيم بوعبيد. فبالرغم من انقطاع نشاطه الحزبي، ما كان بإمكانه أخلاقيا أن يتخلف عن الموعد، موعد حضور تشيع القائد التاريخي إلى مثواه الأخير في زمن سياسي خاص تتوالى فيه فصول ومشاهد «القيام» وانهيار اليقينيات: « لم أكن استطيع أن أتخلف عن حضور مناسبة مثل جنازة عبد الرجيم على الرغم مما بات بيني وبين الحزب من فتور. عبد الرحيم ليس قائد حزب فحسب، هو قائد وطن وشعب. هكذا تكرست صورته في وعيي. ولم أكون، وأنا من بيم المشيعين، أودع الحزب لأودعه كنت أودع مرحلة من التاريخ بدأت هياكلها تتداعى من حولنا وفي كل مكان» بالتأكيد هو استشراف ذكي من السارد في زمن سياسي مغربي معاصر مطبوع بكل أشكال الانحطاط والرداءة . أتناء التشييع كان من الطبيعي لشخص مثل علي أن يستحضر أكثر من سؤال ، ليس فقط حسرة على ما مضى، بل تخوفا كبيرا من ما هو آت . في رواية صيف جليدي ، يتحكم السارد في ألحكي ، يهيمن على كل فصول النص ، وحتى حين يتنازل عن دوره لكل من أخته سميرة ، وعائشة زوجة صديقه عبد الله في فصلي صدى الأصوات «وعائشة»، فإنه يظل هو المحور الأساس / المبتدأ والخبر ، فمن خلاله يبدأ وينتهي كل شيء هذا الحضور الطاغي لشخصية السارد ، يتجسد أيضا في عملية تأتيت الفضاء الزمكاني للنص ، والذي يرتبط كليا بكل أطوار وتقلبات السيرة الخاصة لعلي الزهراوي ، بداية من انتفاضة البيضاء سنة 1981 ، مرورا بانهيار المعسكر الاشتراكي واحتلال العراق ، وصولا إلى وفاة عبد الرحيم بوعبيد . هذا الامتداد في الزمان يدعمه ويغذيه تنوع وتعدد في أشكال المكان من الدار العتيقة لأسرة علي بمراكش ، إلى فضاءات السجن، المحكمة ، المقاهي ، ومقرات الجريدة والحزب وغيرها من الأمكنة الكثيرة التي وصفها السارد في تنظيم وربط خيوط ألحكي. في نص صيف جليدي ، لم يسغب عبد الإله بلقزيز المفكر الأكاديمي الملتزم بقضايا مجتمعه وأمته ، بل ظل في نفس الموقع لكن بشكل آخر ، بلغة أخرى ، وبحرية أكبر في الربط بين الخيال والواقع .هذه الرواية ينمكن اعتبارها سيرة جيل بكامله ، قد تختلف التفاصيل والجزئيات ، لكن المئات من الشباب الذين عاشوا تجربة الحلم والاعتقال ، تجربة الخروج من السجن الأصغر إلى السجن الأكبر سيجدون أنفسهم في شخصية علي الزهراوي . سيعودون إلى ذكريات الأمس القريب ، كل من موقعه ، ومن جديد اختياره في زمن «القيامة السياسية». في صيف جليد يعلو جبل من الحزن ، لكن وفي قمة الجبل يشع نور أمل في غد بعيد لكنه حتما آت في أفق محكوم بالمزيد من الترقب والانتظار وتلك قصة أخرى. !

libyatoday
libyatoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

رواية صيف جليدي تشييع اليقينيات والعودة إلى الذات رواية صيف جليدي تشييع اليقينيات والعودة إلى الذات



لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 09:24 2024 الإثنين ,12 شباط / فبراير

تعرف على أبرز إطلالات شرقية فاخرة من وحي النجمات
المغرب اليوم - تعرف على أبرز إطلالات شرقية فاخرة من وحي النجمات
المغرب اليوم - عودة الرحلات الجوية عبر مطار ميناء السدرة النفطي

GMT 16:10 2020 الإثنين ,21 كانون الأول / ديسمبر

الألوان الدافئة والاستلهام من الطبيعة أبرز صيحات ديكور 2021
المغرب اليوم - الألوان الدافئة والاستلهام من الطبيعة أبرز صيحات ديكور 2021

GMT 18:57 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

حظك اليوم الأربعاء 2 كانون الأول / ديسمبر لبرج الثور

GMT 14:07 2016 الجمعة ,16 أيلول / سبتمبر

الأبنوس

GMT 15:05 2019 الثلاثاء ,11 حزيران / يونيو

نيمار يبلغ سان جيرمان برغبته في الرحيل هذا الصيف

GMT 14:42 2018 الأربعاء ,19 كانون الأول / ديسمبر

السالمية الكويتي يبدأ مشواره العربي بلقاء الشبيبة الجزائري

GMT 15:23 2018 الإثنين ,15 كانون الثاني / يناير

سنوات يفصلها رقم

GMT 11:24 2019 الثلاثاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

الملك محمد السادس يرسل برقية تعزية إلى الرئيس الكاميروني

GMT 13:45 2019 الثلاثاء ,04 حزيران / يونيو

أول صالون تجميل يستقبل المحجبات في نيويورك

GMT 23:50 2019 الأحد ,02 حزيران / يونيو

باتريس كارتيرون يُراقِب العائدين من الإعارة

GMT 00:14 2019 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

السعودية تنفذ حكم القتل تعزيرًا في حق صدام حسين
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya