الرباط - وكالات
بحث عن عاشق نموذجي في قصة» تبدل»يشكل كثير من النصوص الروائية المغربية ذاته انطلاقا من خطاب ميتا- روائي(1). وهذا الاختيار الفني والجمالي والمعرفي بات يشكل ظاهرة في القصة القصيرة أيضا؛ إذ تكفي الإشارة هنا إلى الميتا- قصصي في عتبة قصة «من يصدق الرسائل؟» لياسين عدنان «عزيزي القارئ .كنت للتو انتهيت من تلك القصة ،حينما تدحرجت ككرة بلياردو مجنونة» (2)، أو تأطير قصة «المصعد» (3) لمحمد شويكة بتعيينات، ومناصات سيناريو فيلمي «plan large- moyen.plan –travelling..الخ»، وكذلك قصة «فنطازيا» (4) لعبدالمجيد جحفة التي نقرأ فيها «أليس الواقع درجة من الخيال والخيال درجة من الواقع؟ما يفرق بينهما شيء يعسر القبض عليه». ونجد عبد العالي بركات يكتب أيضا في قصة «الخماسية»: (5)»تساءل حول ما يرغب في كتابته أقصة قصيرة أم طويلة؟أم قصة فحسب؟أم أقصوصة أم قصة قصيرة جدا؟أم رواية قصيرة أم نص قصصي؟»، ناهيك عن قصص لأحمد بوزفور، وعز الدين التازي، والميلودي شغموم، وآخرين، ومن دون شك يكشف تدخل صوت المؤلف الضمني- لمساءلة المتن القصصي ومبناه- عن هاجس الوعي بنظريات السرد، وجماليات التعبير الأدبي والفني، بل يصل الأمر إلى الشك في النوع والجنس والواقع والخيال..الخ ، بما يجعل النص السردي فعلا إبداعيا تخييليا وفي الآن نفسه فعل نقد وسؤال ..
هذا الوعي نجده حاضرا مكشوفا، أو مستترا، في المجموعة القصصية «ليل غرناطة» لعبد الرحيم جيران، وذلك قصد تجريب رؤية جديدة وفق تصور إبداعي مغاير ومختلف، يروم مساءلة الإبداع القصصي، وهدم يقينيات الخطاب الواقعي المؤسس على الانضباط لقواعد السرد التقليدية.
ونمثل لهذا الاختيار-أساسا- بقصة «تبدل»، فالعنوان فيها يؤشر هذا على تيمة الزمن، والصيرورة ، واختلاف الفضاء، وزوايا النظر إلى العالم ، بغية تمثيل نسبية الحقيقة وسراب امتلاكها. ولعل بنية المحكي تشبه إلى حد ما بنية الحب من حيث ارتكازهما على اللعب؛ ففي كل لعبة يتوخى اللاعب/السارد الاندماج في دوره والاستغراق فيه لاستكشاف العالم بمتعة وألم، واختبار المهارات من أجل تحقيق الذات لموضوع رغبتها في بنية صراعية.
يتمثل اللعب في كون السارد يمارس فعل الحكي بوصفه مؤلفا ضمنيا، إذ يقدم في النص القصصي بصفته شخصية كاتب يحاول تجريب كتابة قصة، بالإعداد والتخطيط والبناء /الهدم، مراهنا على خياله، و مرجعياته الثقافية-الجنسية لرسم صورة امرأة كان يتوهم أنها ملتصقة بجسده كالعلق، ف»صورتها جاهزة في الذهن». وبما أن للكتابة إكراهاتها واحتمالاتها، وللعشق أوهامه ومجازاته، فان الكاتب وجد ذاته مستدرجا لتخيل تكتيكات واستراتيجية جنسية للقبض على الصورة السامية للمرأة ب»أن يشيد مثالا كاملا لتلك التي ظلت دوما حبيبته المشتهاة من دون ان تكونها في الواقع»، وبالتالي تسخيرها وسيطا رمزيا لترويض القارئ. في الإفتراض الأول رآها وهي في شارع مفتوح، مكشوفة مبدية زينتها للعموم، مما أثار لديه امتعاضا، لأن المرأة/القصة الجميلة هي تلك المتمنعة الفاتنة، والمثيرة للغرابة، لذا عدل عنها مستبدلا إياها بسكرتيرة في مؤسسة تحت إدارته على الرغم من كونه في الواقع –الافتراضي- مجرد مستخدم .ثم ما لبث أن انزاح عن هذا المسار كذلك لأن السكرتيرة تبدت له مبتذلة، و من السوقة التي لا ذوق لها، ولا رقي، واختار تخيل تكتيك إغرائي جديد، تكون فيه المرأة من ذوات الشأن، وإذ يضعه نموذجه للمرأة هذا في السوبرماركت، ويجعها في حالة تسوق، يظهر تردده في اختيار أفضل السيناريوهات لمراودتها من دون إفراط حتى لا يثير سخط الآخرين. هذه الإمكانات الثلاثة جعلته حائرا قلقا، مسيجا بنظام عوامل معاكسة مبنية على قيم محافظة، وعلى التقاليد والأعراف، وتجسد ضميره الأخلاقي– الأنا الأعلى- الذي يردعه، ويروضه باستمرار ،مثل اشتراط اشتهاء امرأته من الفئة الراقية وكره تلبيسها السروال، أو استصغار مطاردتها بفجاجة في الشارع والخوف من افتضاح أمره ..الخ. لقد كان الكاتب- الشخصية- يتوهم أنه الذات الفاعلة للكتابة، لكنه اكتشف بأنه محكوم بعامل خارجي، هو السارد- المؤلف الضمني– «وجد نفسه يتحول فجأة –وبمحض إرادته- إلى شخصية متخيلة في قصة تكتبها يد أخرى خفية غير يده»، إنه الإله الخفي الذي يرسم له «لوحه المحفوظ»- بتعبير القاص أحمد بوزفور-، ويهيئ نفسيته لاستيهامات جنسية توجه أفق انتظار القارئ المفترض من الاحتمال إلى الإمكان، ولا مناص من قضائه وقدره، بل يمكن لهذا الإله أن يضحي بوجود الكاتب المدادي- الورقي ك «أن تمزق تلك اليد الخفية الورقة فيصير عدما». هكذا قدر السارد تغريب كاتبه بسلبه القدرة والإرادة رغم إيهامنا بأنه يتصرف بمحض إرادته، وبالتالي توريطه ليواجه الصفحة البيضاء بوعي شقي مكابدا مصير الموت والعدم. نستنتج من كل ما سبق، أن نص الميتا- قصصي يمارس حضوره ، ويشغل متلقيه لإبلاغ خطابات متعددة أهمها :
-أ/ الخطاب الأدبي: لا وجود في النص لأحداث مسرودة متعاقبة وفق نسق منطقي سببي، وتعاقب زمني في خطاطة سردية ضابطة لأفعال الشخصية بل ثمة حدث واحد هو فعل الكتابة. وما نرصده من أحداث متفرعة ومتسعة بشكل تشجيري، إنما هو تخيل يمارسه الكاتب وفق رهانات سردية تتأسس على الاحتمال والإمكان، بتوظيف الاستباق، والتذكر، والمونولوغ، والحذف، والتلخيص، بأسوب يحاول القبض على الأصل الواقعي، أو الجوهر الجمالي في علاقته بالنسخ والأقنعة. ان المرأة التي أراد نحتها بالكتابة مفردة بصيغة الجمع، إنها تركيب مزجي يحرك في الرجل الذاكرة «استقرت في ذاكرته»، والخيال»جنح به الخيال..»، والحدس «دنا منها حذرا في حركة مطمئنة للحدس..»، والحواس «حرص على أن يظهر كيف التقطتها عيناه فجأة». إن الأدب الراقي هو الذي يستثير القارئ المفترض على مستويات الذاكرة والخيال والحدس والحس بكتابة الهدم والتجاوز؛ لذلك استشعرت كما لو أن القصة تم توظيفها لهدم القصة ذاتها ، والتشكيك في النظرية التي تحدد هوية النوع الأدبي وجنسه طبقا لقواعد صارمة، وردم الهوة الوهمية بين الواقعي والمتخيل، و استثارة القارئ لفتح خياله على أفق فني مغاير وفكر مختلف، وبالتالي تحقيق الرهان الأدبي والفني، وتجريب جدول سردي ينزاح عن نهر القصة العربية التقليدية، ويقوم أساسا على تقويض مفهوم الشكل التقليدي الخطي، واعتماد الشذرات والتداعي الحر، وتقطيع الزمن، واستخدام تقنية تعدد الرواة والصيغ، إيذانا بإعلان ضرورة نهاية الصوت الأحادي السائد)-6- وعليه فاذا كانت الوثيقة التاريخية لا تعكس الحقيقة كلها فان القصة لا تملكها، إذ كلما تناثرت القصص، واتسعت مجازا، وتعدد الرواة اتجهت نحو أسطرة الحقيقة.
-ب/الخطاب الجنسي: تعتبر المرأة في النص وسيطا رمزيا وفاعلا أساسيا لإنجاز استراتيجية الكتابة، فهي موضوع فارغ دلاليا، تملأه الذات الفاعلة بدلالات بحسب ما يستلزمه السياق والمقام . وقد استثمر الكاتب- الشخصية- التحليل النفسي الفرويدي بالتأشير على قارئ مفترض محكوم ببنية جنسية شهوانية، لكن السارد-المؤلف الضمني- سيعلن تمرده على النظرية الفرويدية بجعل المعشوقة تتمرد على نسق تحوير موضوع الرغبة وتعويضها لصورة الأم «صارت امرأة أخرى لها وجه أول امرأة أحبها،ولم تكن من نصيبه،لأنها لم ترد أن تشبه أمه». كما أن السارد استثمر النظرية المرآوية بأن جعل شخصية الكاتب أمام مرايا متجاورة ومتقابلة تعكس تصوره المتشظي للمرأة/القارئ، كأنه كان يبحث عن هوية الذات المفتقدة في عالم ال»تبدل». ويعتبر الخطاب الجنسي معادلا موضوعيا للخطاب الأدبي، فهما يشتركان في بنية مغامرة صيد، على اعتبار أن العامل الذات هنا الكاتب/العاشق يسعى عن طريق استيهامات ومهارات وتكتيكات لتجاوز المعيقات بالمجاز، لبلوغ إستراتيجية الإيقاع بالقارئ/المعشوق وتملك موضوع الرغبة.
-ج/الخطاب الاجتماعي: تنتقد القصة نظام القيم، ونمط الأخلاق في المجتمع الإقطاعي/الرأسمالي انطلاقا من تباين الأدوار الاجتماعية في بنية طبقية صراعية، حيث الحب قوة فاعلة للتملك، وممارسة للسلطة لا البذل والعطاء، وحيث الجسد سلعة في إطار منطق العرض/الطلب أو علاقة الفارس/الطريدة . كما أن القصة تمكنت من خلق مواجهة بين الحتمية –اللاهوتية- في التاريخ والسرد، وبين الحرية و ستعراض صورة الكاتب وهو يتردد قلقا بين سلطة المرجع الواقعي الاجتماعي وجماليات النص، بين المحافظة والتجديد.
إن الخطابات الثلاثة تتفاعل في حركة جدلية من التعليمية الى الجمالية لجعل النص مشروعا منفتحا على قراءات لانهائية على اعتبار أنه (نسيج من المسكوت عنه)-7-. ولعل الكاتب عبد الرحيم جيران وهو يكتب هذه القصة كان يراهن على تأكيد أن الحقيقة ليست مطلقة بل نسبية لأنها متعددة بحسب التلقي والتداول وال»تبدل».
*كاتب مغربي
إحالات:
-* «تبدل «من المجموعة القصصية (ليل غرناطة) لعبد الرحيم جيران.دار الامان. الرباط . ط 1 - 2013 .ص10
- الشواهد النصية الموضوعة بين مزدوجتين مأخوذة من قصة «تبدل».
-1/ «الميتاروائي في الخطاب الروائي الجديد «-كتاب قضايا الرواية العربية الجديدة « د. سعيد يقطين. دار الأمان.ط1. 2012 الرباط-المغرب
-2-3-4-5/انطلوجيا القصة المغربية –وزارة الثقافة-الرباط -2004 انظر قصص: «من يصدق الرسائل؟»ص331 و»المصعد» ص 336و»فنطا زيا» ص217و»الخماسية»ص295
-6/ الرواية العربية والقصة القصيرة أية علاقة؟» -كتاب قضايا الرواية العربية الجديدة « د. سعيد يقطين. ص63
-7/ القارئ النموذجي –أمبرطو إيكو .ترجمة احمد أبو حسن /انظر :طرائق تحليل السرد الأدبي.منشورات اتحاد كتاب المغرب.ط1 .1992.الرباط. المغرب. ص157
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر