أبوظبي ـ المغرب اليوم
ديوان «سجد قلبي» للشاعر السّعودي نايف صقر العتيبي، مواليد عام 1980 الصادر عن هيئة أبوظبي للثقافة والسياحة ـ أكاديمية الشعر، في 114 صفحة من القطع المتوسط، لم ينل حقّه من النقد والتحليل والمتابعة، ولعله تسرّب من بين أيدي النقاد كما تتسرب المياه من بين أصابع اليد، كغيره من كثير من الأعمال الأدبية والفنية المطبوعة التي تمرّ علينا وسط الزّحام مرور الكرام، مع أن هذا الديوان الشعري في طبعته الأولى، وهو الاصدار الثاني للشاعر، يحمل في طيّاته نصوصا مكتملة في البناء والصورة والحركة المنضبطة وجماليات الاسقاط على الواقع وقوة المفردة المزدوجة المعنى المركبة الدلالات، لكنها في تقديري لا تخلو من «روح المغامرة» وصورة القالب الشعري والفني، الذي احتوى التعبير الشعري لجهة (اللغة) وتنويعات المفردات المستخدمة ما بين إيقاعات وفنون الشعر النبطي.
والتعبير الشعري بالفصيحة، وربما يكون هذا المزج على جمالياته مضافا اليه طول الجملة الشـعرية وبعـض مهجور لغتها، هو الذي يشكّل موضع تساؤل حول تجربة نايف صقر، الذي سبق له أن أصدر ديوانا مهما بعنوان «غشّام».
جاء في إهداء الشاعر في مقدمة ديوانه: «إلى أمل الشعر ونصير الشعراء، سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان»، ولعل في ذلك امتداد شعري مشبع نحو سياق أجواء قصيدة الفخر والمديح، تلاه علينا من خلال قصيدة «لامية بني ياس» التي إفتتح بها ديوانه، ممجدا من خلالها شخصية (زايد الأول 1909 ـ 2009)، في مئويته:
وإن كان زايد تكرر فيك زايد لا يزال ويظل
وحيد الازمان لو عادت على العريان كرّاتها
من فاخر الجود غيره وأفحمه معه السخا والبذل
وأنساه ما كان بالامكان وأنسى كان وأخواتها
إنت العرب مودعتك فروعها وجموعها كل أصل
وديوانها وأمّنتك الخي أعنّتها وصهواتها
يا بوظبي لك تحت قلبه غزال ولك عرين ووعل
يرعاك دايم مع عينه معاودها ولفتاتها
هذه اللامية ذات الاثنين والأربعين بيتا، تهتم بشكل واضح في بناء صور تراثية من تاريخ قبائل بني ياس، مضافا إلى كل ذلك، مقدرة فائقة على تطوير هذا المجال من إطار الصورة الجزئية إلى أفق الصورة النّصية، وهذا التماسك في النسيج التصويري يبدو واضحا في التقدم نحو عمق الجوهر في حكم آل نهيان بكل ما فيه من ريادة وشخصيات وخصال حميدة:
قد حمّله زايد أحلامه وهمّه والأماني طفل
والحلم سلاه عن طيش الشباب وعن حماقاتها
سفينتك يا خليفة م أبحرت في الضّحل
من رفعة شراعها يا شراعها وأعماق مرساتها
سفينتك راسية في كل موج وكل خطب جلل
وتواجه الريح والأحداث وتكاسر حساباتها
تقودها جنبك محمد عضيد وفال خير وجبل
في جيوشها طاعة أمرك طال عمرك وفي مطاراتها
يفتح الشاعر في ديوانه مساحة للرومانسية، وشعر الغزل العفيف الرقيق، ونقابل في ذلك نماذج تتداخل فيها المشاعر نحو الحبيبة مع مفردات الطبيعة مثل: الليل والصحراء والدّر والنجم والفجر والرياحين وسحر المساء بنجومه التي تهدي القلب إلى بئر الشوق، حتى ليخيل إلينا أن هذه المفردات بصورها وسحريتها قد أصبحت جزء أصيلا من النسيج الشعري وقد لاحظنا ذلك في نحو عشرين قصيدة من أصل 108 قصائد هي أصل المنجز الشعري كله ومنها: عيون المها، قالت، مهد عشاق، رعشة هدب، هب الظما، بدر على وجهك، مناجاة، نجمة الهاجوس، المسافر. وهنا ثمة ملاحظة أن المرأة والمكان شكّلا عاملا مشتركا في عملية التوصيف بحيث يصبح (المكان) إنسانا قادرا على الوعي والكلام، من خلال فن التجسيم، أو قل (فن التشخيص)، وفي قصيدة صقر ليس شرطا أن يكون المكان قرية أو مدينة، فربما ومن خلال إبتكارية تعبيرية حداثية مخبأة قد نستنسخه من مكونات المرأة الحبيبة، فهل كان المكان عند الشاعر هو الوجه الآخر للمرأة الجميلة وما في الطبيعة من أشياء؟ قد يبدو ذلك واضحا في قصيدته «رعشة هدب» بجملتها الشعرية القصيرة، متجاوزا في ذلك هذا العيب الفني في عديد قصائد الديوان التي بدت لنا طويلة الجملة، كما أن له ميل لطيف وتعاطفي مع المرأة، ويقول فيها:
محبتــــــك يا خـديــــــن الحــــور
أدمـــت فمــــي وأدمـــت أطرافــي
لـــولاي فــي طاعتــــــك مأمــــور
م أضنــانــــي الـوجــــد يا جافـــي
الشـمــــس لولا الدفــــا والنّـــــور
كان أصبحــــت كـوكــــب طـافــي
الحـــب رعشـــة هــدب وشــــعور
وإحســـاس مـثــل العتــب دافــي
يــوم إشــــتهى صوتــه العصفـــور
وردّيــــت لانصــافـــي إنــصافـــي
عافـــت ســـــنام الجمــل والكــور
وإختـــــارت همومــــــي أكتافــــي
فيما يبدو تعاطف الشاعر مع مشاعر المرأة واضح في قصيدته الموسومة بـ«قهوة صباحك»، ففيها ذلك القرب الكبير من اليومي، لحياة إمرأة تعاني من برود زوجها مما حول حياتهما إلى رتابة يومية، لكنه لا يتوقف عند هذا التصوير المبسط للحياة بين زوجين على هوة الانفجار، بل شكّل من خلال هذه الحالة أو قل الظاهرة الاجتماعية في المجتمعات العربية، سبيكة عميقة متعددة المستويات، على مستوى الحركة والتصوير، مع تداخل عديد العناصر لتطوير السياق الشعري في إطار فني لا يخلو من الكاريكاتورية السردية الساخرة:
سـيدي يصحى على قهــوة صباحـه
قبـل لـى يقــرا الرسـايل والجريــدة
إن رضـا وأعلــن ســروره وارتياحــه
كل مــا ينحــبّ بالعاشــق يجيــده
وإن صحــى ولهــان بادرك بمزاحــه
ولا تمــلّ اللــي يقولــه لو يعيــــده
إن عطـاك مــن اهتمامــه مســاحة
علّقك بأوهـام وأشــغلك بقصيــدة
ما أسرني غيـر م أطلـق من ســراحه
من فتونـــه في الغـرام ومـن وعيـده
ليتنــي مجـروح ويطيــب انجراحــه
فدوتــه قلبـي وهـــو ريفـه وعيــده
علينا أن نعترف في هذا السّياق أن هناك هامش جميل في الثقافة الرومانسية للشاعر، فهو ليس عاشقا تقليديا ملتاعا كما يبدو لنا في ذاتية العديد من الشّعراء، حينما يتباكون وهم يتحدثون عن أوجاعهم في قصص الحب، بل هو عاشق من نوع خاص، يمتلك عنفوانه وقوته وكبريائه ورجولته، مما جعله بالفعل مختلفا في هذه الجزئية، كما بدا لنا في قصيدته «قالت»:
قالت جفافك في قصــايدك واضـح
وعجزك عن إنك تكتب الحب ظاهر
وصلتنـي صـوت وحديـث وملامــح
ومرّيـت فـي دروبــي ثقيــل وعابــر
أشـــعر بقلبـي لك بحـب وتســامح
لى جبت لي طـاري الحجـر والدوايـر
العام يكفينـي مــن الوقــت سـانح
واليــوم أحـسّ إنك حبيبـي وأكابــر
وإن كان المكان في شكله الواقعي وتأثيراته الصورية والدلالية والمعنوية، أكثر وضوحا في جملة قصائد منها قصيدة بعنوان «الرياض»، فإن موهبة الشاعر وحسن إنتمائه، تبدوان من خلال ذلك الفيض من الوصف الحميم، فهنا العصافير والورود، والأنجم والنجود ولقاءات الأحبة في أمسيات نستعيد من خلالها حكايات وتراث الماضي،.
وهذا العمق التصويري فيها تعمّق واضح من خلال استخدام بارع لتلك التشبيهات والاستعارات وباقي أنواع المجازات ممتزجه مع الذاكرة الشعرية، وهذا الدمج ما بين صورة الماضي والحاضر، وما لذلك من تأثيرات في البناء الشعري، يشي بأننا ليس فقط أمام قصيدة التفاصيل بكل توقيعاتها، بل نحن أمام قصيدة شمولية فيها أبنية تخييلية محفوفة بواقعية جميلة، تجمع كل مكونات المكان وهويته، وهي الأقرب إلى اليومي:
كان قلبك يا حمــام الــورق ذايــب
غـنّ لي ليــن أتمكـــن مــن هديلك
حسـبك اللـه لي تمنّيــت الغرايــب
ويش نفع نجوم الأرض بلا سهيلك
إفخــــري يا دار حـلاّل النشــــايب
الفخــر فـي كل حــزّة يســتوي لك
والجزيــرة والعــرب نصــر وغلايــب
من عدن لطريف حاشدك وبكى لك
سـلهمي للخيـل وأغضــي للركايــب
هودجــك يا نجــد ما يــزهى بديلك
وإفخــري يا دار حــــلاّل الصعايـب
الفخر ف يكلّ ســاعة يســتوي لك
لا تخلو محتويات هذا الديوان من تأثيرات نوع القصيدة الصورة، وربما يكون من اللائق هنا الاشارة الى موهبة يختص فيها الشاعر نايف صقر، وتتمثل في تطويع فن التكرار، سواء على مستوى استخدام المفردة أو المكان أو المرأة والطبيعة، لتحقيق وحدة الموضوع، حتى لتبدو بؤرة السرد الشعري مرتبطة إلى حدما بأسلوبية القص الروائي، وكلما توغلنا في قراءة وفهم ثنايا القصائد عنده، كلما اكتشفنا عمقه وجماليات تعبيره، وإن كان في بعض القصائد انعكس لذكرى ماضية أو قل أطلال حديثة، يبنيها في صور فنية تجمع الاصالة والمعاصرة وفي مفردة بعيدة قوية غير مأنوسة لكنها معبّرة، كما في قصيدته «أمسية بريده»، وفيها تبدو القصيدة وقد اتخذت آلية الحوار المحفوف بروح درامية:
تطيح النجوم من السما والقباب السود
على صفحة يرقى بها النور لـ إشفافه
جمال الشعر ما هوب سرده وهو منضود
وهو تكتبه فوضاه وترتّب إنساقه
غبي من يشك الجوهرة والدرر في عقود
وهو في الصدور البيض ما ثبت أعناقه
وقد صابني في مقتلي ناعم العبرود
وسيّلت له دمي وسامحت تفّاقه
سلامين الأول جمر وأكسر عليه العود
والآخر حليب العشب لى حنت الناقة
وعندي من القيصوم م أغرى هبوب النود
تشيل القصيم فـ مهجتي لآخر آفاقه
همى الغيث والوديان في حلوقهن سدود
والأوطان معمورة والاعلام خفّاقة
ولكنك إذا تمعنت في عنوان الديوان «سجد قلبي»، ستجد بلا شك أنّ هناك تجاوزا رائعا في بناء الصورة الوصفية، ومجازية عالية القيمة والمستوى والدّلالة، فقد تعودنا على تلك الصور التقليدية لانحناءات القلب مثل: القلب يحزن، أو يبكي، أو يفرح، أو يدمع، أو يختلج، أو ينهار، أو يقفز. أمّا ان يسجد القلب خاشعا، متحوّلا بذلك إلى كائن بشري، فهذه في الواقع قمّة الصور المجازية التي تقوم على جماليات فلسفية عميقة، بل قمّة الدلالة الشعرية التي تشهد لنايف صقر، بسمو موهبته، وشفافيته في انتقاءاته الشعرية، فيما يظل الشعر الجيد في محتواه وجوهره، والخطاب والرسائل التي يريد أن يبعثها لنا في إطار شاعرية اللغة.
في الواقع لقد كنّا أمام شاعر متميز من شعراء الجزيرة العربية المحدثين، نجح في أن يخايلنا من خلال معاصرة مرسومة بالتراث الشعري العربي القديم بصورة جميلة عن الانتماء للوطن، والحب العفيف في أجلى صوره الانسانية، في كتابة تناصّية تبني على المفردة مفردة أخرى مختبئة بطريقة تحترم ذائقة وعقلية القارئ، ومنذ نظرنا إلى غلاف الديوان وفهرسه الذي ضم هذا العدد الكبير من القصائد التي تكاد تمتد في نسيج شعري موضوعي واحد، فرأينا صورة للشاعر وقد وضع يده ناحية مكان القلب، وكلها ربما تكون مؤشرات على التفاعل مع فعل الكتابة، فهل أنصفنا الشاعر في جهده الذي حشد لنا من خلال كلماته نوق البرق والغيم، والأوطان والعشق ورمال الصحراء وصهيل الخيول، وتمجيد العروبة، وأزمة الانسان المعاصر، في رؤية يعلو فيها صوت الضمير العام على نشيد الذات.
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر