الرباط - المغرب اليوم
أكّد بنسالم حميش، الكاتب الروائي ووزير الثقافة المغربي الأسبق، أنّ كتابه "الذات بين الوجود والإيجاد" سيرة ذاتية فكرية أو ذهنية، لا علاقة لها مطلقا بما يسمى المذكرات، التي هي عمل يهتم به السياسيون. وأضاف حميش، في سياق تدخّله في حفل تدارس كتابه الحاصل على جائزة الشّيخ زايد للكتاب، بالمكتبة الوطنية للمملكة المغربية، في الرباط، أنّ جائزة الشيخ زايد للكتاب كانت ستصير من نصيبه عام 2018 حول كتابه "في الإسلام الثقافي"، لكنّ "الظروف كانت مساعدة لينالها شيخ كبير في السن، أرادوا أن يظل مغنيا، واسمه شحرور، ويوَدِّعوه بهذه الالتفاتة"، في إشارة إلى الباحث محمد شحرور الذي ظفر بالجائزة عن كتابه "الإسلام والإنسان.. من نتائج القراءة المعاصرة".
وعكس من يرون أنّ السيرة الذاتية هي القول: "تعالوا إليّ -يا قرّاء- أحدثّكم عن نفسي، وهذا كلّ ما يهمّني"، يقول حمّيش إنّ السيرة الذاتية هي التي "تقف حقيقة وتكتشف ما في حياتنا؛ سواء كان غريبا، أو لافتا، أو أعجوبة، أو معجزة..."، وزاد: "في "الذات بين الوجود والإيجاد" وضعت في البداية سؤالا حول السيرة الذاتية وأجبت عنه، لإظهار مقصد هذا العمل. ووضعت فصلا أردته قصيرا موجزا، وهو قطع حياتية، تكلمت فيها عن طفولتي ومراهقتي وأطوار أخرى تلتها، ثم أتى فصل أسميته "أوجد في فضائي أدبيا"، ثم فكريا، ولغويا، فثقَافيا، ليكون في الأخير فصل أخير حول "سِجالاتي" بالمعنى الجيّد للكلمة".
أمثلة سير ذاتية في الكتابة العربية
واستشهد حميش بمجموعة من الأمثلة التي تعكس الذاتيّة عند الكُتّاب الذين نقرأ لهم، عن أنفسهم، وعلاقة ذاتهم بالآخر، مقدّما مثالا بأبيات لعنترة بن أبي شدّاد هي: "أثني عليَّ بما علِمْتِ فإنني … سمحٌ مخالقتي إذا لم أُظلم، وإذا ظُلمْتُ فإنَّ ظُلميَ باسلٌ … مرٌّ مذَاقَتهُ كَطعم العَلْقم"، وأخرى هي: "وَلَقَد ذَكَرتُكِ والرِّماحُ نَواهِلٌ ... مِنّي وبِيضُ الهِندِ تَقطُرُ مِن دَمي، فَوَدَدتُ تَقبيلَ السُيوفِ لأَنَّها … لَمَعَت كَبارِقِ ثَغرِكِ المُتَبَسِّمِ"، ثم علّق وزير الثقافة الأسبق على الثّاني بقوله: "عبلة قبح الله سعيها وعنصريتها..لم أجد في أي بيت مثل هذه الصورة.. في قلب الحرب يتذكّرها، وهذه عناصر سير ذاتية حقيقة، ومهمة جدا".
واستشهد حميش في سياق حديثه عن العناصر السّير ذاتية في الأدب العربي بالمتنبي، في قوله: أيَّ مَحَلٍّ أرْتَقي ... أيَّ عَظيمٍ أتّقي، وَكُلّ مَا قَدْ خَلَقَ اللّـ ... ـهُ وَما لَمْ يُخْلَقِ، مُحْتَقَرٌ في هِمّتي ... كَشَعْرَةٍ في مَفْرِقي، وقوله: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي … وأسمعت كلماتي من به صمَمُ، وقوله: أنام ملء جفوني عن شواردها … وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ.
وأحال بنسالم حميش على كتاب أبي حامد الغزّالي "المنقذ من الضّلال"، واعتبره "كتابا عظيما" وكتابا "سير ذاتيا"، وابن حزم القرطبي، صاحب "طوق الحمامة"، الذي حكى في سيرته الذاتية عن "الألفة والألّاف والحب، ويقول عرَض هذا لي، بمعنى أنّه معنيّ بما يقول…"، واستشهد بقوله: خلوت بها والراح ثالثة لها … وجنح ظلام الليل قد مد ما انبلج، فتاة عدمت العيش إلا بقربها… فهل في ابتغاء العيش ويحك من حرج؟.
واستشهد حميش بأنموذج أسامة بن منقذ، في كتابه "الاعتبار"، وقال إنّه "سيرة ذاتية في ظرف تاريخي تراجيدي، هو الحروب الصليبية، التي تحدّث عن وحشيّتها وما فعل بالمدنيين العزّل من تقتيل وتخريب للمباني، وإحراق مكتبته حرقا…"، وزاد: "هي سيرة ذاتية غير منغلقة على الذات والأشياء البسيطة التي تحدث للجميع"؛ كما استحضر مثال أبي العلاء المعري، وبيته: كأنَّ الغمام لها عاشق ... يساير هودجها أين سارا، وبالأرض من حبّها صفرة ... فما تنبت الأرض إلاّ بهارا.
ويرى الروائي المغربي أنّ "الأيّام" التي كتبها عميد الأدب العربي طه حسين تندرج في خانة السيرة الذاتية الفكرية، وزاد: "تحكي "الأيّام" كيف ينظر الضرير المكفوف ويكتشف العالم، وهي مغامرته الفكرية. ويسمّى هذا في الفلسفة الحالات الحدّيّة "Les question limites"، التي يتداولها كثيرا الوجوديون، والتي ابتدعها كارل ياسبرز، وهي: الوجع والموت والأمراض بكل أصنافها العضوية والعقلية، ومن بين الأعمال التي استشهد بها حميش كتاب "الاعترافات" للقديس أوغسطين، الذي وصفه بأنّه من أروع ما يمكن أن يُقرَأَ في هذا المجال، واعترافات روسو، وعمَلَين سير ذاتيّين لجون بول سارتر، وسيمون دو بوفوار.
أسلوب خاص
قال إدريس الخضراوي وهو باحث ناقد مغربي، إنّ لبنسالم حميش أسلوبا خاصا في الكتابة الفكرية والأدبية، وأضاف أنّ عمل "الذّات بين الوجود والإيجاد" يُعَزِّزُ الخط الفكري والجمالي، الذي استطاع أن يجترحه حميش في المشهدين الأدبيين المغربي والعربي، وهو "سيرة موضوعاتية ذهنية فكرية، ومراجعة انتقائية للماضي".
هذا الوصف بالنسبة للخضراوي يكتسِي أهمية كبيرة لفهم هذا العمل؛ "لأن الماضي لا يمكن استعادته استعادة ناجزة ومكتملة، إذ طوي في النسيان، وكل عودة له تكون انتقائية، لأن الذاكرة انتقائية بطبيعتها، وهو ما يجعل السيرة الذاتية في حاجة إلى التخييل لتستطيع لمس أصالة ملفوظات الذي يُتَرجِمُ لذاته".
ويرى الناقد أن حميش اجترح خطّا مختلفا في الكتابة عن الذات، من خلال قراءته الظرفية والواسعة لمجموعة من السير العالمية، والتجارب الإبداعية في لغات مختلفة، وبعض الكتابات الحديثة التي لم ينهج أصحابها هذا المنهج الذي يريد متابعة الحياة بشكل كرونولوجي، وقطع حياتية، وأضاف أنّ فصول مؤلَّفِه "تترافد وتتداخل في ذاتها، وتحاور بعضها البعض؛ فيصدر النص بهذا المعنى بتصور خاص للسيرة الذاتية، نتلمسه من خلال مقدِّمَته".
وقال الناقد إنّ حميش يبدو قارئا ومطلعا بشكل جيد على الكثير من التجارب الإبداعية، والجماليات في لغات مختلفة، وانفتح على الغزالي وابن منقد وابن خلدون وإدوارد سعيد ونيتشه وسارتر وبورخيس ومالرو، وميشل دي مونتين في الكتابة عن ذاته، ثم أراد أن يجترح أسلوبا خاصا في الكتابة عن ذاته، مضيفا أنه "تحدث في سيرته هاته عن مرحلتي الطفولة والمراهقة في مدينة مكناس، خلال التعلُّم بالكُتَّاب، والتعليم الابتدائي بمدارسها، ومجموعة من الأساتذة، خاصة الفرنسيون الذين كانوا يتعاملون مع التلاميذ معاملة قاسية، والأستاذ بنعبد العزيز بنعبد الجليل الذي كان يخفف من هذا في حصة اللغة العربية، والتنشئة الوطنية التي حرص عليها والده بسرد بطولات ومعارك المغاربة ضد المحتل الفرنسي، مثل معركة بوفكران".
وذكر المتحدّث ذاته أن بنسالم حميش لم يكتشف في هذه المرحلة ما يشير إلى شعور بأنّه سيكون كاتبا مكرَّسا وكبيرا، ولم يلمس هذا إلا عند الانتقال إلى الجامعة في أواخر الستينيات، مردفا: "هنا تحدث عن مجموعة من الأساتذة الذين شكّلوا محطة في تكوينه الفكري، مثل محمد عزيز الحبابي، وعبد الكبير الخطيبي، وعبد الله العروي.. مع تأثير كارل ماركس وسارتر فيه وتكريسه دروسا ومحاضرات للفلسفة الماركسية والوجودية، اللتين شكلتا رافدا أساسيا في عطاءاته الفكرية والإبداعية".
وتحدّث حميش في سيرته الذهنية الفكرية، وفق الباحث، عن ذاته من خلال مجموعة من المجالات التي برز فيها، كالمجال الأدبي، وقربنا من منهجيته وخطته ومفهومه للكتابة، وأضاف: "يبدو مطلعا على الأعمال الأدبية الكبيرة، التي أخصبت طريقته في كتابة الرواية"؛ كما تحدث عن رافدي التراثي الذي استند إليه في رباعيته الروائية، والوجودي الذي أخصب أعماله اللاحقة، التي اهتم فيها بالإنسان ومغامرة العيش في هذا العالَم.
ويرى المتحدّث أنّ الروائي بنسالم حميش لم ينظر إلى الرواية كـ"رواية أطروحة"، تتعامل مع القرّاء كأنّهم صفحة بيضاء على الكاتب أن يملأها، بل نظر إليها كـ"رواية مركبة"، وتحدّث في سيرته عن علاقته بالفلسفة، وكيف شكلت رافدا أساسيا أغنى رؤيته للعالَم والإنسان، واسترسل الخضراوي قائلا: "نجد في هذه السيرة الذاتية تقريبا من بنسالم حميش المثقف العضوي، المشغول بالأسئلة المطروحة على مجتمعه، والمجتمع العربي، والمجتمع العالَمي، ونجد في منهجه مفهوم "القراءة الطّباقية" الذي صاغه إدوارد سعيد. كما نجد أنفسنا في هذه السيرة الذاتية أمام بنسالم حميش المناضل السياسي في حزب الاتحاد الاشتراكي، والوزير الأسبق، ومفهومه للثقافة، وكيف تتعالق تعالقا شديدا مع مبدأ التنمية، فلا تنمية بالمعنى الشامل إذا لم ترتكز على أساس ثقافي".
قد يهمك أيضًا :
حميش يدعو إلى الدفاع عن العربية ضد حملات "التهجين والتبخيس"
بنسالم حميش ضِمْن اللائحة القصيرة لفئة "التنمية وبناء الدولة"
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر