نقش شواهد القبور ما بين كسب العيش والتعريف بالموتى
آخر تحديث GMT 06:12:26
المغرب اليوم -

نقش "شواهد القبور" ما بين كسب العيش والتعريف بالموتى

المغرب اليوم -

المغرب اليوم - نقش

نقش "شواهد القبور"
فاس - المغرب اليوم

لا يمكن لزائر المدينة العتيقة في فاس أن يمر وهو يشق "الطالعة الصغيرة"، صاعدًا أو هابطًا، دون أن تثير انتباهه ألواح رخامية مكتوبة بخط عربي أنيق، معروضة بأبواب ورشات صغيرة.. إنها شواهد القبور التي يتخصص في نقشها حرفيون مهرة، خطاطون يطوعون الخط العربي ليحولوا ألواح الرخام الصماء إلى بطاقات ناطقة عن "حياة الموتى" تتضمن، بالإضافة إلى أسمائهم وتاريخ ميلادهم ووفاتهم، نقوشًا عبارة عن آيات قرآنية أو أدعية مأثورة أو عبارات تعزية.

أدوات بسيطة ومهارات كبيرة
بمجرد ما تخطو خطواتك الأولى بـ"الطالعة" الصغيرة، في اتجاه عمق المدينة العتيقة في فاس، ستجد نفسك وسط أربع ورشات متخصصة في نقش شواهد القبور، إحداها ورشة محمد الشرقاوي، وهو حرفي في عقده الرابع، قضى في ممارسة هذه الحرفة حوالي 30 سنة، بعد أن تعلم أولى أبجدياتها عندما كان، خلال نعومة أظافره، يرافق جده إلى ورشته في أوقات الفراغ من الدراسة، ليساعده في عمله.

وعندما دخلت هسبريس إلى ورشة الشرقاوي وجدته رفقة زبون يطلب منه أن ينجز له شاهدًا رخاميًا لقبر أحد أقربائه، توفي قبل أيام ليست بالبعيدة، فدله على نماذج، ليختار واحدًا منها، قبل أن يتناول الحرفي مذكرته ويشرع في تسجيل المعطيات الخاصة بالشخص المتوفى. وبعد أن ذكر الزبون أنه لا يعرف التاريخ الهجري الموافق لازدياد قريبه، طمأنه الشرقاوي وأقنعه بأنه لا داعي لذلك، وأخبره أنه سيكتفي بكتابة التاريخ الميلادي للازدياد والتقويمين معًا عند الإشارة إلى تاريخ الوفاة؛ ثم انصرف الزبون بعد أن ناول صاحب الورشة ثمن اللوحة، ضاربًا معه موعدًا للعودة من أجل أخذ طلبيته التي أوصاه بإخراجها في أحسن حلة.

وأسرع محمد الشرقاوي، بعد انصراف زبونه، ليشرع في عمله، وهو يتجاذب أطراف الحديث مع هسبريس حول واقع وخصوصيات هذه الحرفة، وأخذ بركارا وبدأ يرسم به على اللوح الرخامي أنصاف دوائر وأقواسًا، قبل أن يأخذ قلم مداد (ماركور) وينطلق، في رشاقة، يخط على المستطيل الرخامي دعاء رحمة لسيدة متوفاة، ستكون هذه القطعة الرخامية شاهدًا على قبرها، قبل مروره إلى خط بطاقة تعريفية لحياة المتوفية، وذلك بخط عربي جميل، بلمسة فنية وإبداعية متميزة.

وما إن أنهى الشرقاوي الخط على اللوح حتى أخذ مطرقة وأداة حادة (إزميل)، فانهمك في النقش على اللوح مقتفيًا آثار الحروف؛ وذلك بكل انتباه ودقة، مسترسلًا في الحديث مع هسبريس دون أن يرفع عينيه عن اللوح؛ وبمجرد أن أنهى هذه المهمة حتى شرع في صباغة ما نقشه على اللوح، مستعملًا اللونيين الأخضر والأسود، قبل أن يضع لوحته جانبًا لكي ينشف المداد وتصبح الصباغة مقاومة للمسح، فتحولت القطعة الرخامية من قطعة "عذراء" إلى لوحة فنية تزينها نقوش بخط عربي بديع.
 
فن وإبداع
"أنا أستعمل ثلاثة خطوط في نقش شواهد القبور، هي الثلث والأرقام والنسخ"، يوضح محمد الشرقاوي، الذي اعترف بأنه لا يحترم قواعد الكتابة بهذه الخطوط، قائلا: "إذا كتبت بهذه الخطوط كما هي، فالزبون لن يتقبل الأمر، سيطالبك مثلًا، بتطويل الألف وإظهار الهاء، إلى غير ذلك من الحروف التي لم يعتد الناس على أشكالها بالخطوط المذكورة"، مشددًا على ضرورة أن يكون الخط بلمسة فنية ومقروءًا لدى الجميع.

وأجمع جل حرفيي نقش شواهد القبور في فاس على أن هذه الحرفة تعلموها منذ الصغر، وذلك على مراحل، تبدأ بتعلم حك اللوح بالملح، ثم التخطيط (الترساج)؛ وبعد ذلك ينتقل المتعلم إلى التدرب على النقش والصباغة، مؤكدين أن هذه الحرفة تتطلب التركيز ودراية واسعة بأنواع الخط العربي، كما هو حال الشرقاوي الذي ذكر أنه كان يتدرب على الكتابة بالخط العربي في منزل أسرته؛ وذلك عبر اطلاعه على بعض الكتب التي تتناول أنواع الخط العربي وطريقة الكتابة بها.

ولا ينتظر حرفيو نقش شواهد القبور في فاس مقدم الزبون ليبدؤوا في إنجاز لوحاتهم، فهم يعملون مسبقًا على إعداد نماذج متعددة منها، يتم عرضها داخل ورشاتهم وعلى أبوابها، بعد أن ينقشوا عليها آيات قرآنية أو أدعية، مع ترك مكان الضمائر فارغًا، فإذا ما جاء أحد الزبائن واختار نموذجًا للوحة معينة بادر الحرفي ليضيف إليها الضمير المناسب لجنس المتوفى، بعد ذلك يكمل خطها بتضمينها اسم المتوفي أو المتوفية وتاريخي الميلاد والوفاة.

"هناك من يختار رخامة كبيرة، وهناك من يفضل رخامة صغيرة"، يوضح عبداللطيف، أحد الحرفيين الشباب، موردًا أنه في بعض الأحيان يقترح قريب المتوفي أو المتوفية صيغة الدعاء أو الآية القرآنية التي يريد أن تكتب على الشاهد، وزاد: "نكتب ما يريده، ونخيره بين النماذج المتوفرة، فإذا أعجبته فله ذلك، وإن أراد بديلًا عنها نلبي طلبه".

تراجع المداخيل
أجمع نقاشو شواهد القبور في مدينة فاس على أن القطاع أصبح يعيش وضعية صعبة، ليس بسبب تراجع عدد الموتى، ولكن بفعل المنافسة الشرسة بين الحرفيين، بعد ارتفاع عدد الممارسين لهذه الحرفة؛ كما أن غلاء الرخام، الذي يتم جلبه من إيطاليا، قلل من الأرباح، وذلك بعد أن أصبح الطلب عليه متزايدًا بسبب استعماله في تزيين المنازل والإدارات العمومية وواجهات البنايات.

"كان يأتي عندنا الزبائن من مختلف الأقاليم القريبة من فاس. وحاليًا نقتصر على طلبيات من مدينة فاس وضواحيها وإقليم تاونات"، يؤكد محمد الشرقاوي، الذي ذكر أن هذه الحرفة كانت مزدهرة فيفاس في مرحلة تواجد اليهود بكثرة في المدينة، إذ كانوا يقبلون على وضع شواهد القبور لموتاهم بالمقبرة العبرية الكائنة في حي الملاح، وزاد: "كانوا يطلبون منا أن ننقش لهم "الحانوكات"، وصورة شخص ملتح يحمل في يده شيئا ما".
 
ويختلف ثمن الشاهد حسب حجم لوحته الرخامية، ولا يقل عن 80 درهمًا؛ كما يتحدد حسب سخاء الزبائن أو بخلهم، والذين يتفاوت إقبالهم من يوم إلى آخر، علمًا أن عدد الموتى يبقى المؤشر الرئيسي الذي يحدد الدخل اليومي لنقاشي شواهد القبور في مدينة فاس.

 

libyatoday
libyatoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نقش شواهد القبور ما بين كسب العيش والتعريف بالموتى نقش شواهد القبور ما بين كسب العيش والتعريف بالموتى



لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 09:24 2024 الإثنين ,12 شباط / فبراير

تعرف على أبرز إطلالات شرقية فاخرة من وحي النجمات
المغرب اليوم - تعرف على أبرز إطلالات شرقية فاخرة من وحي النجمات
المغرب اليوم - عودة الرحلات الجوية عبر مطار ميناء السدرة النفطي

GMT 16:10 2020 الإثنين ,21 كانون الأول / ديسمبر

الألوان الدافئة والاستلهام من الطبيعة أبرز صيحات ديكور 2021
المغرب اليوم - الألوان الدافئة والاستلهام من الطبيعة أبرز صيحات ديكور 2021

GMT 04:52 2017 الثلاثاء ,15 آب / أغسطس

الأميرة ديانا تطلق لقب "إبنتي" على فتاة هندية

GMT 05:31 2019 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

محمد حمدي يعلن عن خطأ شائع ترتكبه الأمهات

GMT 07:18 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

ديكورات لمنازل تركية تعكس الفخامة والروعة

GMT 08:48 2018 الإثنين ,04 حزيران / يونيو

لتضمني حياة سعيدة مستقبلاً امنحيه فرصة أخرى

GMT 16:49 2015 السبت ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

اعتقال الفنان الأميركي مايكل ويثرلي مخمورا

GMT 02:41 2017 الجمعة ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

"فالدوس فليمس" وجهتك المفضّلة لقضاء أجمل شهر عسل

GMT 21:02 2017 الجمعة ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

الشرطة تستدعي صاحب برنامج "ليالي ماريو" على "فيسبوك"

GMT 07:19 2019 الثلاثاء ,16 إبريل / نيسان

فقيه يقدم علي الانتحار شنقًا في إقليم سيدي قاسم
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya