رغم مرورها من بلدان كثيرة، أبرزها بولونيا وألمانيا، تقدّم منية رزق الله نفسها مغربية الأصل وفرنسية الولادة والنشأة، قبل أن تزيد كونها عازفة محترفة على آلة الكمان، وأول امرأة في موضع بارز في الأوبرا الألمانية لبرلين.
تقرّ رزق الله بأن الفضول الطفولي وتأثرها البالغ بعصامية والدها لعبا دورا محددا لمعالم مستقبلها، وأن الثقافة المغربية التي نهلتها من أسرتها تجعلها، رغم انشغالها بأجندة عملها الفني الممتلئة، تراهن على التطوع كمدخل لإفادة المملكة بخبرتها.
بداية من "بوردو"
في مدينة "بوردو"، بالجنوب الغربي لفرنسا، رأت منية رزق الله النور أول مرة، وكبرت بين أحضان أسرة من 5 أفراد يحرص عليها أبوان مغربيان هاجرا إلى أوروبا من الدار البيضاء.
تبدو منية متأثرة بشخصية والدها الراحل حين تقول إنه كان عصاميا إلى درجة كبيرة؛ وتعلم الكثير من الأمور الرائعة بمفرده رغم أنه لم يدخل المدارس، وتميز بعشق الموسيقى الكلاسيكيّة الغربية.
"كان يضبط جهاز التلفاز على برامج موسيقية كل أربعاء، وهذا ما نمّى في نفوسنا، أنا وأختاي، حب الفنون وعموما، وتذوق الأعمال الموسيقية الراقية على وجه الخصوص"، تردف رزق الله.
ألحان الكمان
اختارت منية رزق الله تعلم العزف على آلة الكمان حين وصلت ربيعها السابع عشر، وجاء ذلك بعدما ارتأى أبوها أن يدفعها صوب هواية تمارسها بجانب الالتزام الدراسي.
وتعود إلى تلك المرحلة المصيرية من عيشها لتورد: "طلب مني أبي أن أنخرط في صنف رياضي أو تعبير فني بالموازاة مع التركيز في التعليم، وقد اخترت الكمان حين أقبلت أختاي على دروس البيانو والناي".
تعتبر منية أن أستاذتها الموسيقية الأولى "فالي" جعلتها مهووسة بألحان الكمان، لتقرر ملازمة هذه الآلة الوتريّة إلى الأبد، بينما لم تستمر أختاها ضمن هذا الميدان سوى سنوات قليلة.
التخصص الإبداعي
بدأت منية رزق الله تكوينها الفني في معهد "بوردو" الموسيقي، ثم نمت لديها رغبة جامحة في اجتياز مباراة الالتحاق بالمعهد الوطني العالي للموسيقى في العاصمة الفرنسية باريس.
وتذكر الفنانة نفسها أن والدها اشترط نيلها شهادة الباكلوريا مقابل موافقته على خوضها التجربة الفنية التي تبتغيها، إذ كان مؤمنا بأن الطموح الفني لا يغني عن استكمال المسار الدراسي الأساسي.
بعد إنهاء المرحلة الثانوية بنجاح، تفوقت منية في امتحان الولوج إلى المعهد الباريسي الذي ابتغت صقل موهبتها بين جدرانه، كما حظيت بمنحة مالية لخوض غمار هذه التجربة.
استقرار في ألمانيا
أنهت عازفة الكمان التكوين في العاصمة الفرنسية قبل الانتقال إلى "أكاديمية موزارت" في العاصمة البولونية وارسو، ثم توجهت إلى "قسم توماس بانديس" في برلين الألمانية لتنمية قدراتها.
وتقول منية رزق الله: "كان أبي يوصيني، منذ رصده موهبتي الموسيقية الطفولية، بأن أتوجه إلى العاصمة الألمانية، لأنه كان يتابع، عبر التلفزيون والإذاعة، المستوى العالي لكبريات الحفلات الموسيقية الكلاسيكية في برلين".
قدّمت المفاخرة بأصلها المغربي ملف ترشيح لمجاورة العازفين في "الأوبرا الألمانية ببرلين"، عاملة بتوصية أحد أساتذتها الألمان؛ وبذلك ظفرت بتعاقد مدّته 6 أشهر، ثم صار سنة، وتحول إلى ارتباط مفتوح.
ضمن مكانة بارزة
واصلت منية رزق الله التميز في العزف على الكمان، وحظيت بمكانة بارزة حين انتزعت موقع "Premier chef d'attaque" بين أعضاء المجموعة الموسيقية لـ"أوبرا برلين".
بناء على هذا التعاطي المتواصل منذ أعوام، تكشف رزق الله أن "للثقافة مكانة بارزة في الدولة الألمانية، وللموسيقى الكلاسيكية حضور قوي في الحياة اليومية بهذه البلاد".
وتزيد في لحظة بوح: "عشت صدمة ثقافية مفرحة عند وصولي إلى برلين. وبالوصول إلى ألمانيا كسبت أيضا التواصل بلغة جديدة، وتعودت على أسلوب تفكير يجعلني مرتاحة لكل هذا الإيقاع".
التموقع في الأوبرا الألمانية لبرلين فتح أمام رزق الله أبوابا موسيقية عديدة؛ لتتلقى دعوات من مهرجانات كثيرة، وتتاح لها فرص المشاركة ضمن أوراش فنية كبرى، أبرزها الأوركسترا العالمية للسلام.
التطوع في المغرب
ترى منية رزق الله أن ولادتها ونشأتها في فرنسا جعلتها تستفيد من الثقافة الأوروبية، بجانب الموروث المغربي الذي نهلته من أسرتها، وتشدد على أن هذا الغنى الثقافي أفرز مزيدا من التساؤلات المحفزة لديها.
"استثمرت في هويتي المغربية عبر مشروع أرسيت معالمه الأساسية فوق تراب المملكة. ولا شكّ أنني أجد صعوبة في التوجه صوب أصولي، ثم أضطر إلى المغادرة من جديد نحو برلين"، تقول عازفة الأوبرا.
دعوة من المعهد الثقافي الفرنسي في مكناس، سنة 2008، أعادت الوصال بين رزق الله والمغرب، ما جعلها تشارك عزف الكمان مع الجماهير في مدن كثيرة من البلاد، وتلتزم فيها بمشروع "ماستر كلاس" منذ 2017.
تضيف منية أن التواصل مع الجمهور المغربي شكل تحولا في مسارها الفني، لتقرر التطوع في "ماستر كلاس" موجه إلى الشباب، أساسه إقامات فنية يفيد عليها خبراء من "أوبرا برلين"، ومن دول عديدة.
المشروع جرى توطينه في فاس سنة 2019 بعدما نشأ في الرباط، وهو أداء تطوعي خالص يكوّن مجموعة منتقاة من العازفين المنتمين إلى 12 معهدا موسيقيا في المغرب، ثم يستعرض إبداعاتهم في حفلات كبرى.
رهان على الفضول
تقول منية رزق الله: "لو كنت قادرة على تمرير رسالة إلى شباب المغرب، سواء كانوا موسيقيين أم لا، فإني سأدعوهم إلى عدم التخلي عن أحلامهم عند مجابهة الصعوبات الحياتية".
وتردف عازفة الكمان المتميزة بأن الأفراد ينبغي أن يحرصوا، خلال كل مراحل بحثهم عن النجاحات، على النقد الذاتي لمساءلة أنفسهم حول ما يقومون به، لأن ذلك يعطي فرصا لتصحيح الخطى.
"التمتع بالفضول يعد بداية لتأسيس المعرفة الفعلية، فهو الذي يطلق البحث عن الطرقات الممكن سلكها؛ لذلك يجب اكتساب مهارات تنمي الفضول المفيد وتجعله يتحول إلى حافز لمراكمة المعرفة".
قد يهمك ايضا
معرض النشر والكتاب يعكس التوجهات الدستورية فيما يتعلق بالتعدد اللغوي
إطلاق "كتاب الزيتون" في مبادرة تُنمّي الثقافة المغربية بالعربية والإنجليزية
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر