عندما استولى تنظيم "داعش" على الرقة، اجتاحت موجة من اللون الأسود أنحاء المدينة، ورفعت الأعلام السوداء الخاصة بالجماعة حيث عاش أعضائها أو عملوا، وطلب من النساء أن يرتدين اللون الأسود، كما غطيت المباني الحمراء بالطلاء الأسود وكذلك الأماكن العامة. وعندما بدأت الضربات الجوية الأميركية، حذر النشطاء العائلات من نشر الملابس السوداء في الخارج أو على أسطح المنازل، حتى لا يخطئ طيران التحالف ويعتقد أنَّها أعلام "داعش".
ربما أصاب القلق "داعش" أيضًا، لذا بدأت بإعادة طلاء كل مكان، ففي الساحة المركزية، حيث تم صلب أحد الأشخاص، وحيث تُقام العقوبات الأخرى علنا، تزينت بألوان مثل: الوردي والأخضر والأبيض والذهبي.
وعلى ما يبدو، فقد دفعت ضغوط الدعاية والأمور الدنيوية والأعمال المكلفة حاكم الرقة معقل "داعش" لتقديم بعض التنازلات.
في الصيف الماضي؛ كانت جرائم مثل التدخين أو عدم إغلاق المتجر وقت الصلاة، عقوبتها عشرات الجلدات للمخالف، ولكن بدأ بعض أفراد الشرطة في قبول الغرامات بدلًا من الجلد لأولئك الذين يستطيعون دفعها، بل إنَّ هناك تقارير تشير إلى أنَّه تم إجبار التجار على أن تبقى المتاجر مفتوحة خلال الصلاة، حتى يتمكنوا من جمع المزيد من المال منها.
وليس المال فقط الذي يعاني "داعش" من قلته، إذ يفتقر أيضًا للمقاتلين الذين أصيب أغلبهم في الغارات الجوية أو على خط المواجهة، كما أنَّ الناس لا يريدون التبرع بالدم ولذلك تجبرهم قوات "داعش"، وأي شخص له مصلحة في "المحكمة الإسلامية" يُطلب منه الذهاب إلى مستشفى معين، والتبرع بنصف لتر الدم، ثم العودة مع إيصال عندها فقط ستتم معالجة قضيته.
لا يمكنك إيجاد طريقة للتهرب من هذا التبرع، حتى إذا كان لديك المال، الذي لا يتوفر للجميع، كون العديد من الشركات قد أغلقت، بما في ذلك الشركات القانونية، على سبيل المثال، فالتنظيم لا يعتقد بالنظام القانوني القديم، مدعيًا أنَّه يحاول أن يحل محل قانون الله.
"داعش" لا يريد من الناس أن تعمل، هم يريدونهم فقط، يعانون، حتى يضطر الرجال إلى الانضمام للجماعة، كما ستتزوج النساء مقاتلي "داعش"، فرجال "داعش" يعشقون الجنس بجنون، إذ دائمًا ما يصادرون "الفياجرا" من الصيدليات.
أصبحت المدينة سجن للنساء تحت (45) عامًا، فالنظام يقول إنَّهن لا يستطعن ترك منازلهن لأنهن قد يتعرضن للاغتصاب في المناطق التي يسيطر عليها "داعش" أو جماعات أخرى، ولكن معظم الناس داخل الرقة يعتقدون أنَّهم يريدون المزيد من الزوجات للمقاتلين.
كما وضعت الكتائب النسائية إعلان ذكرت فيه أنَّ أيَّة امرأة تريد أن تتزوج مقاتل من "داعش" ينبغي عليها ارتداء الحجاب الأبيض تحت الأسود، ثم يتم الاتصال بها، إلا أنَّ الفتيات لا يحبونهم ولا يرغبن في الزواج منهم، ولكن بعض العائلات لديها مشاكل اقتصادية.
لكن عندما تتزوج النساء منهم تظهر مشاكل أخرى، فالبعض لا يعرفن حتى الهوية الحقيقية لأزواجهن، ولا يعرفن إلا الاسم الحركي، وعندما قتل زوج امرأة في معركة كان كل ما تعرفه هو أنَّه جاء من تونس، وليس لديها أيَّة وسيلة للاتصال بأسرته، أو حتى معرفة مكان وجودهم.
حظرت "داعش" على الرجال الذين ولدوا بعد العام 1992 مغادرة المدينة إلى المناطق التي تسيطر عليها القوات الحكومية لإجراء الامتحانات، أو جمع الرواتب أو أي شيء آخر، وهذا يعني أنَّ الرجال لن يذهبوا إلى أي مكان، لأن الذي يريد أن يهرب إلى تركيا هل سيسافر دون زوجاته أو بناته وأبنائه؟
الناس لا يريدون مغادرة الرقة أيضًا لأنَّه بمجرد ذهاب أي شخص، سيستولي أفراد التنظيم في منزله، وقد صودرت العديد من المنازل من المسيحيين، وأعضاء "الجيش السوري الحر".
وقبل استيلاء "داعش" على الرقة، بلغ عدد سكانها مليون نسمة، في حين يبلغ الآن 400 ألف نسمة، ولكنهم يتساءلون: أين سأذهب؟ ماذا سأفعل؟ ليس لدي المال للعيش في تركيا، و"داعش" سيأخذ بيتي، 'حتى مجرد البقاء هنا فأنت تنتظر غدًا مجهولًا.
ومع عدم وجود عمل، فإنَّ أغلب السكان يفضلون البقاء في المنزل لمشاهدة التلفزيون أو استخدام الإنترنت، الناس العاديين لا يمكن أن يعيشوا دون الإنترنت و"داعش" لا يمكنه العيش دون الإنترنت، إنَّها مثل تجارة الهيروين هنا، والجميع مدمنون.
يستخدم السكان موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" أو "واتس آب" لأنَّهم لا يمكنهم مشاهدة مقاطع مصور أو استخدام "سكايب"، لأنَّهم يخشون مع حدوث مشاكل لهم مع "داعش"، وفي بعض الأحيان يتم تفتيش هاتفك عند نقاط التفتيش، وإذا وجدوا الصور أو الرسائل غير إسلامية، فأنت في ورطة.
يشعر الناس بالقلق بشأن أطفالهم، فالتنظيم يجبر الأطفال على الانضمام في أي سن، وهم يشعرون بالملل، وليس لديهم مدارس، كما يحظر التنظيم عمل أي شخص تحت (13) عامًا، ويحاط جميع الأطفال بمقاتلين مع بنادقهم، ويشعر الأطفال كأنهم يعيشون في أفلام الرعب، وعندما يرون هذه الأمور في نهاية المطاف يقررون الذهاب إلى مخيمات التجنيد، وهو أمر خطير للغاية.
وبعد أن أُغلقت المدارس لمدة عام عادت هذا الشهر، ولكنَّ المعلمين أدانوا أنفسهم لاستخدامهم كتب "الكفار" المدرسية في الماضي، أما كتب "داعش" فلا يوجد أحد راضٍ عنها.
وتمتد سنوات التعليم حتى الصف التاسع "المدرسة المتوسطة"، علاوة على أنَّ الآباء قلقون جدًا من عملية غسل عقول أطفالهم لذا ـ في الغالب ـ قرروا إبقائهم في المنزل، وهناك عدد قليل من الناس يقيم مدارس صغيرة في المنزل لتعليم أبنائهم، لكن ذلك في السر وهو أمر في غاية الخطورة، إذ يُشاع أنَّ "داعش" سيقتل أي معلم يتم توقيفه يعمل في تلك المدارس لاسيما لتعليم الفتيات.
لا أحد يفكر أنَّ "داعش" سيضطر للرحيل قريبًا، لأنَّ هناك الكثير منهم، وعدد المقاتلين الأجانب في المدينة صادم، لا يوجد حي لا ينتشرون فيه كما استولوا على عشرات المنازل.
الناس لا تعتبر أنَّ ما حدث في مدينة عين العرب "كوباني" هزيمة للتنظيم، لأنَّ الجميع كانوا مضطرين للرحيل والقصف الجوي حول المدينة إلى أنقاض لتحقيق الفوز، هناك الكثير من الناس في الرقة اضطروا للمغادرة، و"داعش" يعلم أنَّه لا يوجد أي بلد ترغب في إرسال قوات للقتال على الأرض.
يميل أفراد التنظيم من البلدان الأخرى إلى التجمع في مجموعات حسب الجنسية أو اللغة - البريطانيون معا، والهولنديون معا - وليس لديهم الكثير ليفعلوه مع الناس العاديين، فكلا الجانبين يخافون من بعضهم البعض.
إذا حاول شخص ما التحدث مع الأجانب، فإنَّ الشرطة ستسألهم لماذا يقوم بإزعاجهم، أو ربما يتهمونه بأنَّه جاسوس، لكنَّ الأجانب أيضًا عصبيون، ربما لأنَّ أسرهم أو الحكومات في بلدانهم لا يعرفون أنَّهم في سورية، وربما لأنَّهم قلقون من نشر صورهم أو الأسماء الحقيقية، إذ أنَّ هذا يسبب مشاكل إذا قرروا العودة إلى ديارهم.
في الواقع؛ وعلى الرغم من ذلك، فإنَّ فرصة عودتهم ضئيلة، إذ أنَّه من السهل الوصول إلى الرقة، ولكن من الصعب جدًا الخروج منها، وعندما يذهب المقاتلين الأجانب إلى الرقة أول شيء يفعلونه هو مصادرة جوازات سفرهم، وفي خطب في المساجد يحذر "داعش" الناس من منح الأجانب بطاقات جديدة.
والبعض منهم شعر بالملل عندما وصلوا إلى هنا من لندن أو نيويورك، فلم تكن الرقة أبدا مدينة مثيرة، ولا يوجد أي شيء يمكن فعله، لذلك فإنَّ الأجانب يفقدون الحماس، البعض الآخر جاء فقط ليعيش "حياة جيدة" في ظل "الخلافة"، لكنهم لا يريدون القتال، وذلك عندما يحتاج "داعش" للرجال، ويحاول نقلهم لخط المواجهة يصبحون غير راضين.
كما أنَّ "داعش" لا يستطيع منع أخبار المنشقين من الانتشار، إلا أنَّ أي شخص يحاول الهروب "يقتل"، لقد قتلوا العديد من الناس في غرب المدينة والقوا جثثهم في حفرة حتى انتشرت رائحة سيئة للغاية ثم يضطرون لدفنهم.
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر