كأنه أمسك قلم الله وكتب الحالم
آخر تحديث GMT 06:12:26
المغرب اليوم -

كأنه أمسك قلم الله وكتب.. "الحالم"

المغرب اليوم -

المغرب اليوم - كأنه أمسك قلم الله وكتب..

بقلم - بشرى ديهيمي

"الحالم" رواية ليس من السهل الإمساك بها. رحلة سردية غير مألوفة. بناء شاهق يجعل من يرتقي طوابقه معلّقا في الهواء. ومن هذا العلو تتراءى عوالم الجزائري سمير قسيمي بغرائبيتها وواقعيتها ضبابية متداخلة إلى حد التطابق.هكذا تبدو هذه الرواية المستعصية البديعة من أول سطر فيها. وإلى هذه النتيجة ينتهي كل قارئ لهذه الرواية ذات الأبعاد اللانهائية. يُظهر الكاتب في هذا الكتاب قدرة هائلة من الخيال، تحكما كبيرا في السرد واحترافية في بناء عمل أراد له أن يخوض معتركا نفسيا وفلسفيا شديد الوطأة إلى حدّ أن الدخول فيه يعني الرضا بمنطق المتاهات، ولكنه منطق أقل فوضية ورغم تشعباته تكثر فيه الإشارات على الطريق. قد تبدو قصة الحالم بسيطة: رجل صاحب موهبة تضيع حياته في ملاحقتها. يفقد عمله. يخسر بيته واحترام زوجته الحامل. ينتقل معها للإقامة في فندق. زوجته لا تحتمل حياة التسول والتشرد غير المسميين فتثور. إنها تمثل الواقع، هذا الذي بجبروته يثور على أحلام يسحبها البطل خباد رضا خلفه، يحملها، يتحملها إلى حين. لا جرم واضح في الحكاية ولا جريمة غير الرغبة في الحلم، غير الأمل في يوم مشرق قد يولد ذات صباح يكتشف فيه العالم موهبة رضا. لا يأتي هذا اليوم، لا شمس ولا نور ولا أي بصيص. وفي لحظة جنون أو استفاقة متوحشة يحرق رضا مخطوطاته، تلتهم النار أحلامه، لكنها لا ترضى بذلك فحسب وينشب حريق في غرفته، تموت الزوجة الحامل ويفقد البطل عينه وعقله معا. تبدأ نوبات جنونه ويرفض مواجهة الواقع، فيخترع البطل واقعا موازيا متخيلا يكون فيه صديقة "سمير قسيمي"، يتماهى معه أولا ويكتب عملا خرافيا يعنونه "ثلاثون" وتبدأ رحلة مجنونة في عوالم النفس البشرية. قد تبدو الحكاية بسيطة لو اقتصر الكاتب عليها، لكنه يتمادى في البناء على رمال متحركة، كلما ابتلعت جزءا منه شيد قسيمي عمرانا آخر، حتى يتصور القارئ أنه بضربة سحر أوقف حركة الرمال. قمع الطبيعة. وجد مكانا صلبا عليها، ليكتب في حيز ضيق عملا لانهائي الأطراف. هنا يُظهر الكاتب سطوته، وهنا تبدأ علائم الاحتراف. سرد متصل منفصل، متراطم وحكي لا يتوقف. كلما حاول القارئ فهم اللعبة كلما أدرك أنها لعبة لا يفهم فيها غير الكاتب. لا رواية في رواية، بل رواية برواية. تبدأ وتنتهي كل واحدة بما تبدأ وتنتهي بها الأخرى. نفس الشخصيات تعبث بعقل القارئ، تغير جلدها في كل مرة ولكنها في النهاية تتماهى مع بعضها. تسقط البنايات المشيدة وما أن تفعل حتى تبعث بنايات أخرى من ردمها. شيئا فشيئا يدرك القارئ أنه أصبح مثل شخصيات العمل، تتداخل عنده الأوصاف والماهيات. لسبب غير واضح يشعر أنه معني بالرواية، قد يكون كاتبها أيضا أو ربما شخصية من شخوصها. كلما تقدم القارئ في هذه الرواية.. كلما أنهى قسما منها، يدرك أنه لم يكن يسير نحو أي شيء. لقد خدعه الكاتب وأوهمه بالسير قدما، وحين وثق فيه أعماه بالتفاصيل وجعله يدور حول نفسه ليعود إلى نقطة البداية.. إلى الصفر، وفي الأخير يتماهى مع العدم. لكن للعدم بالنسبة لقسيمي مفهوما غير السائد. إنه الوجود نفسه بتكوراته والتواءاته لحظة الانطباق. يستحضر الكاتب المفاهيم الفيزيائية لتبرير عقائده. كلها تقول أنه وجودي، عبثي: * المهم.. كيف وجدت الموت؟ * لا أعرف بالضبط. كل ما يمكنني أن أقول عنه أنه ليس نهاية لأي شيء. * كيف؟!.. * ربما.. ربما لأن الحياة لم تكن قط بداية لأي شيء.. وكلها تقول أنه اختار التجريب في هذه الرواية لأن الحياة عنده مجرد تجربة، وهو ما يدهشه حين يلاحظ كائنا لا يتغير: " أدهشني أنه لم يتغير في شيء تقريبا، فباستثناء هندامه الذي أصبح أكثر ملاءمة لعمره، وتكرّشه الطفيف، لم يتغير فيه شيء، حتى تلك الأمور التي كان عليها أن تختفي مع السنين، ظلت مستمرة فيه. أعني وهج الحياة الذي عادة ما يلازم بريق أعيننا ونحن في سنوات الجامعة، تلك التي ونحن نجترها، تجعلنا نعيش أرقَّ وأجمل ما في الحياة". ولكنه في نفس الوقت يؤمن بالقضاء والقدر: " لم تكن السيطرة إلا وهما أرادتني المشيئة أن أتصوّر أنني أملكه. لا أحد يقدر على السيطرة حقا". ولا يعتبر الصدفة مدخلا لأي فرصة :" وما كنت لأتذكر حدوث ذلك لو لم يحدث لاحقا ما جعل تلك الصدفة سببا وجيها لأفقد إيماني الساذج بالصدف". لقد تمكن قسيمي من كتابة عمل فريد، لا بفضل تقنيته أو لغته أو كل ما كتب عنه سابقا، بل لأنه في هذه الرواية تمكن بوسائله من ولوج الدواخل البشرية وتشريحها وتفسيرها بغير الأدوات التقليدية. إنه عمل يغوص في أغوار النفس البشرية، ويحسن رسم الخط الفاصل بين العقل والجنون.. إنه عمل جمع في طياته الكثير من الثنائيات المتناقضة التي تعدم نفسها، لا بسبب "لاعقائدية" الكاتب، بل لهشاشة مفهوم الوجود نفسه: " أيمكن لأحد أن يغير مصيره؟. ها أنا قد تسللت بين بنود عقدي وتمكنت من العودة إلى هنا، وفي ظني أنني سأقنع صاحب عملي بجدواي في منصب أفضل، لأكتشف في النهاية كم كنت أحمقا طيلة تلك السنين، أخدم سيدا وأنا أظن خدمة سواه. لماذا تركني سيدي أعيش كل ذلك القدر من العمر متوهما خدمة سواه؟. أيعقل أن وجودي لم تكن غايته ما قرأته بنفسي في كتابه، لأظل أعيش متوهما الغاية فحسب. إن كان الأمر بهذا النحو، فلم يبقيني سيدي من دون غاية؟". أوجد قسيمي بهذه الرواية مدخلا غير متوقع إلى الحلم. مكانا مقدسا بين الخيال والواقع. مساحة غير مرئية بين الممكن والمستحيل. ولأنه وجد هذا المدخل، المكان، المساحة فقد تمكن من كتابة عمل يستحيل كتابته إلا بطريقة واحدة: أن تجد قلم الله وتكتب، ربما فعلها قسيمي ووجد قلم الله وكتب "الحالم".

libyatoday
libyatoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كأنه أمسك قلم الله وكتب الحالم كأنه أمسك قلم الله وكتب الحالم



لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 09:24 2024 الإثنين ,12 شباط / فبراير

تعرف على أبرز إطلالات شرقية فاخرة من وحي النجمات
المغرب اليوم - تعرف على أبرز إطلالات شرقية فاخرة من وحي النجمات
المغرب اليوم - عودة الرحلات الجوية عبر مطار ميناء السدرة النفطي

GMT 16:10 2020 الإثنين ,21 كانون الأول / ديسمبر

الألوان الدافئة والاستلهام من الطبيعة أبرز صيحات ديكور 2021
المغرب اليوم - الألوان الدافئة والاستلهام من الطبيعة أبرز صيحات ديكور 2021

GMT 18:57 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

حظك اليوم الأربعاء 2 كانون الأول / ديسمبر لبرج الثور

GMT 14:07 2016 الجمعة ,16 أيلول / سبتمبر

الأبنوس

GMT 15:05 2019 الثلاثاء ,11 حزيران / يونيو

نيمار يبلغ سان جيرمان برغبته في الرحيل هذا الصيف

GMT 14:42 2018 الأربعاء ,19 كانون الأول / ديسمبر

السالمية الكويتي يبدأ مشواره العربي بلقاء الشبيبة الجزائري

GMT 15:23 2018 الإثنين ,15 كانون الثاني / يناير

سنوات يفصلها رقم

GMT 11:24 2019 الثلاثاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

الملك محمد السادس يرسل برقية تعزية إلى الرئيس الكاميروني

GMT 13:45 2019 الثلاثاء ,04 حزيران / يونيو

أول صالون تجميل يستقبل المحجبات في نيويورك

GMT 23:50 2019 الأحد ,02 حزيران / يونيو

باتريس كارتيرون يُراقِب العائدين من الإعارة

GMT 00:14 2019 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

السعودية تنفذ حكم القتل تعزيرًا في حق صدام حسين
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya