برلين - المغرب اليوم
سرّ السعادة، مصدر قلق تزداد أهميته في الحقبة المعاصرة. بفضل تحسنالأمن المالي، حصل كثر على وقت كافٍ ليركزوا على نموهم الذاتي. لم نعد في عصر الصيادين الذين ينشغلون دوماً بإيجاد الفريسة التالية، بل صرنا نشعر بالقلق حول كيفية عيش أفضل حياة ممكنة. باتت الكتب التي تتحدث عن السعادة جزءاً أساسياً في كل منزل، وشهدت الدورات التدريبية التي تعلّم كيفية تطوير الذات ازدهاراً غير مسبوق.
انتشرت حمى السعادة في كل مكان، وحصل ذلك جزئياً بسبب تنامي مجموعة أبحاث تشير إلى أن السعادة لا تمنح شعوراً بالراحة فحسب بل تفيد كل شخص: ترتبط السعادة بأنواع المنافع كافة، بدءاً من زيادة الأرباح وصولاً إلى تحسين وظيفة جهاز المناعة وتعزيز مستوى الإبداع.بغض النظر عن تعريف السعادة، يكون هذا المفهوم عاطفياً في جزء منه، لذا يرتبط بالحقيقة القائلة إن مشاعر كل فرد لديها نقطة توازن طبيعية، وتؤدي المعطيات الجينية وخصائص الشخصية دوراً في ترسيخها. صحيح أن الأحداث الإيجابية تمنحنا جرعة من التفاؤل، إلا أننا سرعان ما نعود إلى نقطة التوازن الطبيعية بعد فترة قصيرة.
لكنّ السعادة الحقيقية تدوم أكثر من مفعول ارتفاع منسوب الدوبامين في الجسم، لذا من الضروري أن نفكر بهذا المفهوم باعتباره أكثر من مجرد عاطفة بسيطة. كذلك يشمل شعور السعادة انعكاسات معرفية، بما يشبه التقبّل أو الرفض العقلي لدعابات أعز الأصدقاء أو نوعية الزواج الذي يعيشه الفرد. يرتبط جزء صغير من هذه العاطفة بطريقة شعورك، أما الأجزاء الباقية، فهي نتاج عملية حسابية ذهنية تحصل عندما نحتسب توقعاتنا وقيمنا ومدى قبولنا للأمور التي نعجز عن تغييرها، فضلاً عن عوامل أخرى لا تُعدّ ولا تُحصى. لذا يمكن القول إن السعادة تعكس مزاجاً معيناً وبالتالي قد تكون متعمّدة واستراتيجية.
بغض النظر عن نقطة التوازن العاطفي في حالتك، يمكن أن تساعدك العادات والخيارات اليومية (بدءاً من طريقة تصرفك في صداقتك مع الآخرين وصولاً إلى طريقة تعاملك مع قراراتك في الحياة) على بلوغ السعادة والراحة. توثّق دراسة حديثة العادات الفريدة من نوعها لدى الأشخاص الأكثر سعادة في الحياة، وتوفر ما يشبه الدليل الذي يقدم تعليمات لتطبيق تلك العادات. تبين أن النشاطات التي تقودنا إلى مشاعر الارتباك والانزعاج وحتى الذنب ترتبط ببعض التجارب الممتعة التي تنطبع في ذاكرة الناس. يطبق الناس السعداء مجموعة واسعة من العادات غير المألوفة التي تبدو في ظاهرها كئيبة.
منافع المجازفة
حين يكون القلق الحالة المثلى:
إنها ليلة الجمعة وأنت تخطط لمقابلة الأصدقاء على العشاء. إذا أردت أن تضمن الشعور بالشبع قبل عودتك إلى المنزل، يمكن أن تختار البيتزا أو البرغر. أما إذا اخترت طبقاً مختلفاً لم تجرّبه من قبل، قد لا تحبذ الاختيار الجديد أو يمكن أن تكتشف طبقاً لذيذاً لم تكن تتوقعه.يبدو أن الأشخاص الذين يشعرون بسعادة حقيقية يدركون تلقائياً أن السعادة الدائمة لا تتعلق حصراً بالأمور التي نحب فعلها. إنما تتطلب، أيضاً، تحقيق نمو ذاتي وخوض مغامرات بما يتجاوز الحدود المألوفة. يشعر الأشخاص السعداء بالفضول بكل بساطة.
في دراسة أجريت عام 2007، أشرف تود كاشدان والعالِم النفسي في جامعة ولاية كولورادو، مايكل ستيغر، على المشاركين الذين راقبوا نشاطاتهم اليومية ومشاعرهم طوال 21 يوماً، فتبين أن الأشخاص الذين يشعرون بفضول دائم في يوم معين يختبرون، أيضاً، أعلى مستويات الرضى على حياتهم وكانوا شاركوا في أعلى عدد من النشاطات التي تنتج السعادة مثل التعبير عن الامتنان لزميل أو التطوع لمساعدة الآخرين.
لكنّ الفضول يحمل شيئاً من التوتر (حالة من الاندفاع والتوق بسبب عدم المعرفة). عندما عرض العالِم النفسي بول سيلفيا مجموعة متنوعة من اللوحات أمام المشاركين في البحث، ولّدت الصور الهادئة التي رسمها كلود مونيه وكلود لوران مشاعر السعادة، بينما أنتجت أعمال إيغون شيل وفرانسيسكو غويا الغامضة مشاعر الفضول لديهم.يبدو أن الفضول يتعلق بشكل أساسي بالاستكشاف، ويحصل ذلك عموماً مقابل لحظات من السعادة العابرة. يتقبل الأشخاص الفضوليون، عموماً، المفهوم القائل إن مواقف الانزعاج والضعف ليست سهلة، لكنها طريق مباشر لاكتساب القوة والحكمة. عند التدقيق بدراسة كاشدان وستيغر، يتضح أن الشخص الفضولي يستثمر وقته في نشاطات تسبب له الانزعاج وكأنها منصة وثب ترفعه إلى أعلى مستويات الحالات النفسية.
تتعدد الحالات التي تثبت أن أفضل طريقة لزيادة منسوب الرضى تقضي، بكل بساطة، بالقيام بما يريحنا، مثل الاستماع إلى الأغنية المفضلة لدينا أو التخطيط لمقابلة أعز أصدقائنا. لكن من وقت إلى آخر، يمكن البحث عن تجربة جديدة ومعقدة وغير مؤكدة، أو حتى مزعجة (مثل اتخاذ قرار بغناء الكاريوكي للمرة الأولى أو استضافة أصدقاء لمشاهدة فيلم من إعداد أحد زملاء الجامعة). يختار أسعد الناس تجارب متعددة من هذا النوع للاستفادة من كل تجربة في أوقات مختلفة.
تقلبات الحياة
رؤية المشهد العام بدل التركيز على التفاصيل:
يواجه الناس السعداء انتقاداً نموذجياً مفاده أنهم ليسوا واقعيين، فهم يبحرون في الحياة بكل إيجابية من دون أن يدركوا مشاكل العالم ومصائبه. لا يكون الشخص الذي يشعر بالاكتفاء تحليلياً بطبيعته ولا يركز على التفاصيل.وجدت دراسة بإشراف العالم النفسي جوزيف فورغاس من جامعة (نيو ساوث ويلز) أن الأشخاص الذين يميلون إلى السعادة (أي الأفراد الإيجابيين عموماً) لا يشككون بما يدور من حولهم بقدر غيرهم. هم يميلون إلى الانفتاح على الغرباء من دون مشكلة، وبالتالي قد يسهل أن يقعوا ضحية الأكاذيب والخداع. لنفكر مثلاً بالسيدة المسنّة السعيدة التي تدفع مبالغ إضافية في معرض السيارات إلى مندوب المبيعات المبتسم مقارنةً بالعملاء الأكثر جدية ووعياً.
يمكن أن يكون التركيز على بعض التفاصيل أمراً مفيداً عند مواجهة العالم الاجتماعي المعقد الذي يشمل الزملاء والمعارف والاستحقاقات. اعتبر العالِم النفسي بول أندروز من جامعة (فرجينيا كومنولث) أن الاكتئاب حالة يمكن التكيف معها. وفق هذا المنطق، يكون الشخص الكئيب أكثر ميلاً من غيره ليفكر ويحلل تجاربه، وبالتالي يفهم حقيقة مشاعره الداخلية أو حالة البشر عموماً، ولو مقابل ثمن عاطفي. يساهم التركيز على بعض التفاصيل في إجراء تقييم واقعي للعالم الاجتماعي.
لكنّ الإفراط في التنبه إلى التفاصيل قد يؤثر على وظيفة الجسم اليومية، ثبت ذلك في الأبحاث التي أجرتها العالمة النفسية كايت هاركنس من جامعة كوينز. فقد وجدت أن المصابين بالاكتئاب يكونون أكثر ميلاً إلى ملاحظة التغيرات السريعة في تعابير الوجه. في المقابل، يميل الشخص السعيد إلى الإغفال عن التقلبات العابرة مثل تعبير الانزعاج أو الضحكة الساخرة. إنها أنواع مألوفة من التفاعلات التي نعيشها مع الشريك مثلاً. حين نكون بمزاج سيئ، نميل إلى ملاحظة أصغر التحولات ولا يمكن أن نتجنب الشجار. لكن إذا كان مزاجنا جيداً، فنميل إلى الإغفال عن المؤشرات العابرة. يتمتع الشخص السعيد بوقاية عاطفية طبيعية تمنعه من الانجراف وراء أصغر التفاصيل المزعجة.
كذلك، يكون الشخص السعيد متهوراً بعض الشيء بشأن أدائه. عند مراجعة بعض الأبحاث، يتبين أن أسعد الأشخاص (أي من يسجلون علامة 9 أو 10 على 10 على مقياس الرضى في الحياة) يميلون إلى تقديم أداء أقل من الأشخاص المعتدلين في سعادتهم في المجالات كافة، مثل العلامات الدراسية أو حضور الحصص أو رواتب العمل. باختصار، هم لا يهتمون بأدائهم بقدر غيرهم. بالنسبة إليهم، تبدو التضحية بدرجة من الإنجازات ثمناً صغيراً مقابل الشعور براحة أكبر.
لا يعني ذلك بالضرورة أن نتصرف بلامبالاة تجاه مسؤولياتنا كافة، فالتنبه للتفاصيل أمر مفيد. لكنّ المبالغة في التركيز على أدق التفاصيل قد تصبح أمراً متعِباً ومزعجاً. الأسعد بيننا يقتنعون (بكل سرور) بأن السعي إلى الكمال (والتفاعل السلس والمثالي مع الجميع طوال الوقت) هو رهان خاسر.
بلوغ السعادة
قال ألبرت شفايتزر الحائز جائزة نوبل مازحاً إن (السعادة تقتصر على الصحة الجيدة والذاكرة السيئة). رغم المنافع الظاهرية للحفاظ على نفسية إيجابية طوال الوقت، يعتبر النقاد أن البحث عن السعادة هدف غير مناسب: فهو عابر وسطحي وأناني.تدعم الأبحاث عدداً من هذه الادعاءات. تشير الدراسات التي أجراها العالم النفسي إيد دينر إلى أن الناس يدفعون ثمناً عاطفياً مقابل الأحداث الإيجابية المفرطة، لأن الأحداث اللاحقة (حتى لو كانت إيجابية باعتدال) ستفقد بريقها. (لا شك في أن الحصول على ترقية هو أمر رائع، لكنه قد يعني عدم حضور نشاطات الأولاد، أيضاً، بسبب تراكم المسؤوليات).
كشفت سلسلة الدراسات التي قادتها العالِمة النفسية أيريس موس من جامعة كاليفورنيا في بيركلي أن الأشخاص الذين يركزون، في المقام الأول، على تحقيق السعادة يشعرون بالوحدة أكثر من غيرهم. قد يكون شعور السعادة صحياً، لكنّ التوق إلى السعادة هو منحدر زلق.لا ننكر أهمية السعادة، لكننا نستنتج أيضاً أن الحياة السعيدة لا تقتصر على الشعور بالتفاؤل الدائم. الحياة المريحة هي التي نفهمها كمجموعة متكاملة من العوامل تشمل السعادة والحزن العابر وتحديد الأهداف والمرح والمرونة النفسية، فضلاً عن الاستقلالية والتفوق والشعور بالانتماء.
يبلغ بعض الناس مستوى عالياً من السعادة والانتماء الاجتماعي، لكن يدرك البعض الآخر أنهم حققوا مستوى من التفوق والإنجازات. هذه المقاربة تثبت أن الناس يختلفون في طريقة فهمهم للسعادة، لكن يمكن أن يغيروا رأيهم من وقت إلى آخر.على سبيل المثال، قد يرتفع الحس بالاستقلالية إلى أعلى المستويات عندما ينتقل الفرد، في أول سنة جامعية، من العيش وفق قواعد الأهل إلى الحرية أو السكن في حرم الجامعة مثلاً، ثم يتراجع ذلك الشعور بشكل جذري بعد عشر سنوات حين يصبح أباً ويضطر للتضحية بأبسط الأمور مثل ساعات النوم. لكن يخطئ من يعتبر أن الطلاب هم أفضل حالاً من الأهالي الجدد، إذ تختبر كل فئة تجربة فريدة من نوعها.
تحليل الحياة الجيدة وفق مجموعة عوامل متكاملة ليس مجرد خدعة لغوية، بل الاقتناع بمجموعة مختلطة من الآراء عن سبل الراحة والسعادة يفتح آفاقاً إضافية لتحقيق حياة مرضية على المستوى الشخصي. التمتع بالنجاح، ولو في مجال واحد فحسب، قد يكون سبباً للاحتفال.
تجنب الغيرة
(الصديق وقت الضيق)! سمعنا هذه المقولة مئات المرات. في استطلاع حديث من إعداد منظمة (غالوب)، تبين أن أبرز مؤشر للسعادة يتعلق بوجود صديق مقرّب يمكن أن يتواصل معه الفرد للحصول على الدعم الذي يحتاج إليه. من المنطقي إذاً أن نفترض أن الصديق الحقيقي هو الذي يرافقنا دوماً ويتعاطف معنا في التجارب الصعبة.هذا النوع من الدعم يخفف وطأة ظروف الحياة القاسية. مع ذلك، كشف بحث جديد عن فكرة مغايرة بشأن الصداقة: أسعد الأشخاص هم الذين يكونون حاضرين لتقاسم الأوقات السعيدة مع الآخرين، فيحتفل الفرد دوماً بنجاحات صديقه.تدعم العالِمة النفسية شيلي غيبل وزملاؤها من جامعة كاليفورنيا، سانتا باربرا، هذه الفكرة، إذ كشفت أبحاثهم عن زيادة احتمال الانفصال بين أي حبيبين إذا لم يتشاركا الاحتفال بنجاح بعضهما البعض. في المقابل، تتعزز مشاعر الرضى ويرتفع مستوى الالتزام بالعلاقة حين يحتفل الشريكان بإنجازاتهما معاً، ما يعني التمتع بنسبة أكبر من الحب والسعادة.
لكن خارج إطار العلاقة الزوجية أو العاطفية، ما النفع من الاحتفال بنجاح الآخرين؟ ما الذي يدفعنا إلى دعم أي صديق محظوظ عبر الإصغاء إلى انتصاراته العاطفية بينما نعيش نحن في وحدة؟ في المقام الأول، ذلك الصديق يحتاج إلينا بالفعل. مناقشة التجربة الإيجابية مع شخص يصغي ويتفاعل معنا تغير ذكرى الحدث: بعد سرد الأحداث، سيتذكر صديقك تلك الليلة بإيجابية أكبر، ومن الأسهل عليه لاحقاً أن يتذكر الأمر ويستعيد الهدوء بعد بضع سنوات في حال أصيب بخيبة عاطفية. لكنّنا سنستفيد بدورنا من إيجابية الأصدقاء. مثلما نشعر بالسعادة حين ننفق الأموال لشراء الهدايا أو لتقديم مساهمات للجمعيات الخيرية بدل أن نصرفها على أنفسنا، سنشعر بسعادة أكبر بعد تمضية وقت ثمين ونحن نصغي إلى إنجازات الأصدقاء.
في الحياة، يكثر الأشخاص الذين ينتظرون فرصة التباهي ببطولاتهم. لكنّ السلوك القيّم والنادر هو إيجاد شخص يتقاسم فرحة الغير ومكاسبهم من دون الشعور بالحسد. من اللطيف طبعاً أن نرسل الأزهار إلى صديق بعد خضوعه لجراحة في المستشفى، لكن من الأفضل بالنسبة إلى الطرفين إرسال باقة ورد بعد إنهاء دراسة الطب أو بمناسبة الخطوبة مثلاً.
إيجابيات في السلبيات
الناحية الإيجابية من المشاعر السلبية:
قد يدرك الأشخاص الأصحاء، من الناحية النفسية، أهمية التساهل في أمور معينة، لكن لا يعني ذلك إنكار مشاعرهم أو تأجيل مواجهة المشاكل دوماً، بل يفهمون أن العواطف هي أشبه بملاحظات ذاتية، أو نظام مراقبة داخلي يوفر معلومات عما يحدث (أو يوشك أن يحدث) في عالمنا الاجتماعي.الشخص السعيد والناجح لا يختبئ من العواطف السلبية، إنما يدرك أن الحياة مليئة بالخيبات لذا يستعد لمواجهتها مسبقاً، وهو يستعمل، في أغلب الأحيان، مشاعر الغضب بفاعلية لاستعادة تماسكه أو لدعم الأشخاص الذين يشعرون بالذنب وتشجيعهم على تغيير سلوكياتهم. هذا التحول العقلي السريع بين الفرح والألم، أي القدرة على تعديل السلوك ليتماشى مع متطلبات كل موقف، معروف بـ (المرونة النفسية).
على سبيل المثال، بدل أن تشعر بالغيرة من العلاقة العاطفية التي يعيشها أحد الأصدقاء ومقارنتها بعلاقتك الشائبة، يجب أن تعتبر مشاعرك مؤشراً يسمح لك باستعمال استراتيجيات أخرى للتفاعل بطريقة من شأنها أن توفر لك منافع أكبر. تشمل تلك الاستراتيجيات التعاطف والإصغاء اليقظ.
تبين أن القدرة على تحويل الحالات الذهنية، بحسب ما تتطلب الظروف، هي جانب أساسي من السعادة. غداة أحداث 11 سبتمبر، اكتشف العالِم النفسي جورج بونانو من جامعة كولومبيا أن أكثر الأشخاص مرونة ممن كانوا يعيشون في مدينة نيويورك خلال الاعتداءات (أي أولئك الذين يشعرون بالغضب أحياناً لكنهم يستطيعون إخفاء عواطفهم عند الحاجة) يتماسكون بوتيرة أسرع من غيرهم ويتمتعون بصحة نفسية وجسدية أفضل من نظرائهم الذين لم ينجحوا في التكيف مع ما حصل.
فرص التفاعل المرن موجودة في كل مكان: الزوجة الجديدة التي تكتشف أنها عاقر قد تخفي مشاعر اليأس عن أمها لكنها تعترف بها أمام صديقتها الحميمة؛ والشخص الذي يختبر صدمة قوية قد يعبّر عن غضبه أمام أشخاص يشاركونه المشاعر نفسها لكنه يخفي إحساسه عن أصدقائه الذين يميلون إلى التسامح مع موقف مماثل. القدرة على تحمّل الانزعاج نتيجة تغيّر العقلية بحسب أفعالنا والأشخاص الذين نرافقهم تسمح لنا بتحقيق أفضل النتائج في كل موقف.
كما يحصل عند التدرب للمشاركة في ترياتلون، تبرز الحاجة إلى تعلّم مهارة الانزعاج العاطفي في مناسبات إضافية. على سبيل المثال، بدل الالتهاء فوراً بحلقة من مسلسل تلفزيوني أو تناول عصير بعد نشوب كل شجار مع الأولاد المراهقين، يمكنك أن تحاول، ببساطة، احتواء تلك العواطف لبضع دقائق. مع مرور الوقت، تزيد قدرتك على تحمّل العواطف السلبية بشكل يومي.
توازن مناسب
السعادة وتحديد الأهداف أمران متناغمان:
حتى أشرس المناضلين يوافقون على أن تحديد الأهداف من دون الاستمتاع بالتجربة ليس أمراً ممتعاً. يدرك الشخص السعيد أن الاستمتاع ببعض التجارب البسيطة والعابرة يمنحه راحة شخصية (مثل أخذ حمّام طويل ومريح، أو حضور الفيلم المفضل مع الأولاد، أو تفويت حصة الرياضة يوم السبت لمشاهدة مباراة كرة قدم على التلفزيون). إنه جانب أساسي من الحياة المُرضِية. لكن إذا كنت تركز، في المقام الأول، على النشاطات التي تشعرك بالراحة العابرة، فقد تغفل عن منافع تطوير هدف واضح. الهدف هو ما يحركنا لأخذ المجازفات وإحداث التغيير، حتى في وجه المصاعب أو مقابل التضحية بالسعادة على المدى القصير.
عمل ستيغر وزملاؤه من جامعة ولاية كولورادو على اكتشاف كيف يجد الناس السعداء التوازن بين السعادة وتحديد هدف في الحياة، فأثبتوا أن محاولة فهم العالم والغوص فيه تجعلنا ننحرف عن مسار السعادة. في النهاية، تكون هذه المهمة محفوفة بتوتر وشكوك وتعقيد وغموض وحماسة، فضلاً عن الصراع بين الرغبة في الارتياح والرغبة في إحراز تقدم لتحقيق أكثر ما يهمّنا. عموماً، يكون أسعد الناس أكثرهم ميلاً إلى التضحية بالراحة القصيرة الأمد عندما تسنح لهم الفرصة بإحراز تقدم نحو تحقيق طموحات يصبون إليها في حياتهم.
إذا أردت أن تفهم موقف الشخص السعيد، تخيّل وضع قدم واحدة في الحاضر مع تقدير كل ما نملكه راهناً مقابل تمديد القدم الأخرى نحو المستقبل لاكتشاف مصادر جديدة ومهمة. كشفت الأبحاث التي أجراها عالِم الأعصاب ريتشارد ديفيدسون من جامعة ويسكونسن في ماديسون أن إحراز التقدم لتحقيق أهدافنا يجعلنا نشعر بالتزام أكبر بواجباتنا، ما يساعدنا على تحمّل أي مشاعر سلبية تظهر خلال رحلة الحياة.
لا أحد يدعي أن تحديد هدف في الحياة هو أمر سهل أو أن تحقيق ذلك الهدف يتم عبر تمرين بسيط. لكن من المفيد أن تفكر بالنشاطات التي قمت بها في الأسبوع الماضي وتعتبرها قيّمة، الأمور التي تبرع فيها وتحصد إشادة عليها، التجارب التي لا تستطيع التخلي عنها، النشاطات التي تخصص لها أطول وقت. كذلك، يجب أن تلاحظ ما إذا كانت أجوبتك تعكس ما يجب أن تقوله أو ما تحبّه فعلاً. على سبيل المثال، لا تعني الأبوة أو الأمومة بالضرورة أنّ قضاء الوقت مع الأولاد هو أهم وأبرز جزء من حياة الأهل ولا مفر من تقبّل هذا الأمر.
الكذب على الذات أحد أكبر العوائق أمام تحديد أي هدف في الحياة. يميل الشخص السعيد إلى التعامل بصدق مع الجميع حول ما يهمّه وما لا يهمّه. بالإضافة إلى تخصيص وقت لمصادر الراحة الحسية يومياً، يستطيع دمج أبرز النشاطات التي تهمّه ضمن حياة مُرْضِية ولها هدف محدد.
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر