برلين ـ جورج كرم
حظيت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بالإشادة قبل ستة أشهر باعتبارها منقذ أوروبا التي ساعدت في الارتقاء بالقارة للمثل العليا الممثلة في الانفتاح والتسامح عن طريق فتح أبواب ألمانيا لملايين اللاجئين الفارين من الحرب الأهلية في سورية. وبكت ميركل عند ترحيبها بالقطارات الأولى المحملة باللاجئين في مدينة ميونيخ الألمانية، وصفقت للجموع التي استقبلتهم وأرادت إظهار اختلاف ألمانيا عن المجر وغيرها من دول أوروبا الشرقية التي رفضت هذا المد البشري. ويبدو أن المزاج العام تبدَل في ألمانيا في سبتمبر/أيلول بعد أن واجهت ألمانيا حقيقة استيعاب أكثر من مليون مهاجر ممن وعدوا بحياة أفضل.
وتحمَلت السيدة ميركل نتيجة قرارها حيث تداعت شعبيتها إلى أدنى مستوياتها خلال أربعة أعوام، حتى أن صحيفة "بيلد" الألمانية وضعت بوستر لميركل في صفحتها الأولى وطرحت تساؤلًا "هل لا تزال ميركل الشخص الصحيح؟". وحاولت صحيفة "التليغراف" الإجابة على تساؤل ما إذا كانت المرأة الحديدية في أوروبا قد انتهت؟ أم أنها على وشك أن تجرفها الأحداث في سورية وتركيا وشمال أفريقيا بعد أن أصبح الأمر خارجًا عن إرادتها. موضحة أن الأمور تبدو سيئة بالنسبة لميركل حاليا، مضيفة "لكن يجب أن نتذكر أن شعبيتها انخفضت إلى أقل من 50% في أيلول/سبتمبر 2011، وفى ذلك الوقت غضب الشعب الألماني من تعامل الحكومة مع الأزمة في منطقة "اليورو" واحتمالية انقاذ اليونان، ورفض الشعب قرارها بالتمسك بمحطات الطاقة النووية في ألمانيا على الرغم من كارثة فوكوشيما النووية في اليابان، واستطاعت ميركل معالجة المشكلة وأعلنت أن ألمانيا ستغلق جميع محطاتها النووية بحلول عام 2022 وأنها ستحل أزمة منطقة اليورو على الأقل على المدى القصير.
وتوقع النقاد بعد عامين نهاية ميركل لكنها فازت في الانتخابات العامة على خلفية الحملة التي ركزت على شعبيتها الشخصية وإدارتها المستقرة لقضية منطقة اليورو حيث فازت بأغلبية مطلقة بنسبة 77% بين عامي 2012 و2014، إلا أن أحد السياسيين الألمان أوضح العام الماضي أن الحمقى فقط هما الذين يفضلون ميركل لأنها تحدث انقسامات شعبية، وأضاف البروفيسور كاردل رولدوف كورتي أن من يحاول الانقلاب على حزب ميركل سيدمر نفسه.
وأشارت "التلغراف" إلى أنه إذا كان هناك انتخابات غدا في ألمانيا فإن حزب ميركل "حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي" لا يزال الأكبر في ألمانيا، وأن التحالف الحالي لا يزال هو الأمِر على الأغلبية، ومن أهم أسباب شعبية ميركل هو عدم وجود منافس جدي لها في الوقت الراهن سواء بين الأحزاب أو الشخصيات السياسية، كما أن ثاني أكبر حزب في ألمانيا وهو الحزب الديمقراطي الاجتماعي في ائتلاف بالفعل مع حزب السيدة ميركل ويتبع نفس السياسات ما جعل حزب اليسار الحزب الأخضر أقل مصداقية لمهاجمة السيدة ميركل بشأن قضية اللاجئين بعد أن تبنوا نهجا ليبراليا تجاه القضية.
وأصبح حاليًا هناك بديل لألمانيا وهو حزب AfD) ) والذي زاد عدد أتباعه من 4.% إلى 12.5% منذ بدء أزمة اللاجئين، ولكن نظرا لتجدد المخاوف من اليمين المتطرف في المجتمع الألماني فمن المرجح أن يظل هذا الحزب مجرد لاعب هامشي. ويمكن القول إنه لا يوجد منافس شخصي لميركل بعد 11 عاما من ظهورها على المسرح السياسي، حتى أن أكبر ناقد لها وهو هورست سيهوفر يترأس حزب "الاتحاد الاجتماعي المسيحي" وهو الحزب الذي لا يوجد إلا فى بافاريا وبالتالي فهو لا يشكل تحدي على المستوى الوطني، ولا يبقى هناك سوى وزير المالية الألماني المتشدد فولفجانج شويبله، ولديه سجل مهني جيد إلا أنه لا يجرؤ على نزع منصب ميركل، كما أن في السبعينات من عمره وسيكون مثار للجدل على المستوى الأوروبي بعد تعامله مع أزمة الديون اليونانية.
وبينت الصحيفة البريطانية أن الأمور كانت تحت سيطرة ميركل عام 2011 إلا أنها أصبحت مختلفة هذه المرة، حين أوضحت التزامها بإغلاق محطات الطاقة النووية ووافقت على خطة إنقاذ اليونان وتفاوضت حول تخفيض الضرائب واستطاعت الفوز في الانتخابات، إلا أن هذه القوة الألمانية لا يمكنها إنهاء الحروب في الشرق الأوسط، ولا يمكنها إجبار تركيا على منع اللاجئين من مغادرة المخيمات التركية لشواطئ اليونان وإيطاليا، وفشلت الدبلوماسية الألمانية في اقناع دول أخرى في الاتحاد الأوروبي للقيام بواجبهم تجاه اللاجئين.
وشددت ميركل على قواعد اللجوء للحد من ضغط المهاجرين على النظام الاقتصادي، وأضافت دول البلقان وشمال أفريقيا إلى قائمة البلدان الآمنة وبالتالي يتم رفض لجوء مواطنيهم تلقائيا، وبدأت الحكومة الألمانية تصعب على طالبي اللجوء جلب أسرهم للانضمام إليهم في ألمانيا، وعقب جمات كولونيا جعلت ميركل ترحيل اللاجئين الذين يرتكبون الجرائم أمرا سهلا، إلا أن ميركل لا تستطيع إغلاق حدود ألمانيا أمام اللاجئين مثلما فعلت السويد والدنمارك والنمسا لأن الجميع سيحذو حذوها وهو ما يعني انهيار منطقة التنقل الحرة "شيجن" ولا تستطيع أوروبا تحمل ذلك.
ولفتت "التلغراف" إلى ان ميركل ربما تذهب في بعثات دبلوماسية متكررة إلى تركيا للطلب من الرئيس التركي أردوغان التحرك لوقف تدفق طالبي اللجوء إلى أوروبا، ولكن المشكلة أن الأتراك يستمرون في طلب المال في مقابل مساعدتهم، فضلا عن ثلاثة مليارات أسترليني وعد الاتحاد الأوروبي بإعطائهم لتركيا، فضلا عن الشكوك المتزايدة بشأن قدرة أردوغان على القيام بذلك. وإذا لم تستطيع ميركل اقناع تركيا لحل المشكلة فليس هناك حل سوى الاتجاه لليونان نقطة دخول اللاجئين، ويمكن للاتحاد الأوروبي إعطاء المال لليونان لمساعدتهم في التعامل مع أعداد اللاجئين وبناء المزيد من المخيمات وتأمين الحدود، إلا أن هذا ربما يتسبب في أزمة للبلاد التي ما زالت تتعافى من سلسلة طويلة من الأزمات الاقتصادية، وفى حال معاناة اليونان من أزمة اللاجئين ستكون هناك موجودة جديدة من الاحتجاجات وانتخابات مبكرة واضطرابات في البلاد، ويصبح الخيار حاسما أمام ميركل مع إجراء الانتخابات في ثلاثة ولايات ألمانية الشهر المقبل، وكانت الهزيمة في انتخابات الدولة هي التي تسببت في سقوط سلفها جيرهارد شرودر عام 2005.
ونوَهت إلى ان حزب ميركل لا يحتاج أن يكسب المزيد من الأصوات بتاريخ 13 مارس/ أذار ولكن إذا لم يتخذ الحزب إجراءات محترمة فربما يتزعزع وينظر في تعيين زعيم جديد في الوقت المناسب لإجراء انتخابات وطنية العام المقبل. وتواجه ميركل تحدي قانوني من السيد زيهوفر الذى تعهد بتحدي سياسة ميركل في قضية اللاجئين في المحاكم باعتبارها غير دستورية، وإذا نجحت ميركل في الفوز خلال الانتخابات فإنها تستطيع الرد على منتقديها داخل الحزب وهو ما قد يدفع المنتقدين لإعلان ولائهم لها باعتبار أنها لا زالت تستطيع الحصول على الأصوات وهو ما يعطيها مساحة أكبر للتنفس.
وأوضحت الصحيفة أنه في حالة فشل اليمين المتطرف في إحداث أي تقدم يعد ذلك مكافأة للسيدة ميركل حيث ستستطيع إقناع الناس بالالتزام بالوسطية، وفى حالة فشل التحدي القانوني للسيد زيهوفر سيزول تحدي حزب CSU، أما في حالة خسارة حزب السيدة ميركل في الانتخابات فعليها التحرك سريعا للحفاظ على السيطرة، وربما تواجه تحدي داخل الحزب إلا أنها تستطيع مواجهته من خلال قدرتها الهائلة على التغيير السياسة، كما فعلت عقب انتخابات 2011، وتعد خيارات ميركل محدودة فربما تعود إلى فكرة تسكين اللاجئين في مخيمات مؤقتة على الحدود والتي كانت رفضتها من قبل، أو ربما توافق على فرض قيود على عدد اللاجئين المقبول في ألمانيا ولكنها من الصعب أن تغلق الحدود.
وتابعت "في حالة نجاح التحدي القانوني للسيد زيهوفر بشأن سياسة اللجوء في البلاد فربما يدفع هذا ألمانيا إلى أزمة دستورية وتواجه السيدة ميركل دعوات للاستقالة، بزعم أن ليس لديها خيار أخر سوى اتباع حكم المحكمة، وفى حالة فشل حزب الاتحاد الديمقراطي في الانتخابات فربما تتصاعد الدعوات لاستبدال السيدة ميركل، وفى حالة تحسن أداء حزب AfD بشكل أكبر من المتوقع يعد ذلك دليلا على تحول الرأي العام الألماني إلى اليمين، وربما تؤدى سياسة ميركل بشأن اللاجئين إلى تجمع المعارضة بسرعة حول المنافسة داخل الحزب.
وختمت "التلغراف"، "لا يوجد مرشح واضح حتى الأن داخل حزب السيدة ميركل، واستطاعت ميركل تولي قيادة الحزب من السيد هيلموت كول الذى ترأس الحزب أثناء إعادة توحيد ألمانيا، وإذا سقطت ميركل ستحدث تداعيات أبعد من حدود ألمانيا، خصوصًا وأن ميركل أصبحت قوة سياسية مهيمنة داخل الاتحاد الأوروبي، وليس هناك ما يضمن وجود مستشار ألماني جديد يملأ مكانها بشكل افتراضي، وفى حالة سقوط ميركل التي قادت الاتحاد الأوروبي خلال أزمة منطقة اليورو بسبب الانقسام تجاه أزمة اللاجئين فيجب أن تنشأ قيادة جديدة من مكان ما، ويسعى رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون إلى إبقاء بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي، ولكن هل يظهر مستشار ألماني جديد على الساحة؟.
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر