" العنف ضد النساء " قضية يعاني منها المجتمع الفلسطيني بأكمله, ويرتفع معدله من سنة لأخرى في قطاع غزة, بمختلف أشكاله وأنواعه, وللنساء النصيب الأكبر من هذا الواقع الذي نعيشه منذ فترة طويلة, حيث تعاني المرأة من اضطهاد وحرمان, وذلك ليس بالجديد على الواقع الفلسطيني.
ولكن ما هو الجديد علينا أن يمارس أب وأبناءه الذكور, العنف بأبشع صوره ضد بناته, منذ صغرهن حين أجبرهن على ترك الدراسة وهن في المرحلة الإعدادية والثانوية, من أجل القيام بأعمال تكبر أحجامهن الصغيرة وهي " تربية الأبقار والأغنام وحلبها, إضافة إلى زراعة الأرض والتي تبلغ عشرات الدونمات وحصاد المحصول, لم يكتفى الأب بحرمان بناته من حقهن في التعليم, بل وصل به الحال إلى حرمان بناته من الزواج, حيث تبلغ أكبرهن ( 33) عاماً, والأخريات في سن العشرينات, أي السن المناسب للزواج كما هو متعارف عليه خاصة في قطاع غزة, والسبب في ذلك " الميراث ", الذي يخاف أن ينتقل إلى عائلة أخرى, وشخص أخر غيره وغير أبناءه, إضافة إلى ادعائه بأنه يغار على بناته من أن تلمس يد رجل غريب إحدى بناته, متناسياً أن الديانات السماوية كافة تشرع الزواج وتحلله.
حرمان بسبب الميراث
الآنسة " ن. ف" عمرها ( 28 ) عاماً تروي لنا معاناتها وعيناها تحلق في السماء علها تجد من يقوم بمساعدتها, والوقوف إلى جانبها قائلة:" أسرتي مكونة من خمسة بنات وستة أخوة, أربعة منهم متزوجون ولهم حياتهم الخاصة وأسرهم, واثنين منهم صغار ويعيشون معنا, وأمي مطلقة منذ سبعة سنوات, إخواني الكبار يضربونا بمشاركة والدي, وأحياناً أخرى يضربوننا تلبية لرغبة والدي الذي يهددهم بحرمانهم من الميراث, في حال لم ينفذوا رغبته, هو فقط يريد توصيل رسالة إلى كافة المحيطين بنا من الجيران والأقارب وهي تسويد سمعتنا, لأنه يتلفظ بألفاظ سيئة جداً, وذلك لأنه لا يرغب بزواج واحدة منا, لخوفه على الميراث والأراضي التي يمتلكها لتذهب للغريب, كما أنه يقول بأنه لا يسمح بأن تعيش ابنته مع رجل غريب .... ودائماً يردد عبارة لو ينزل ملك من السماء ويقول زوجهم ما بدي أزوجكم ".
" والدي رجل جبار علينا, وعلم ذلك لأخواني فهم يمارسون بحقنا كل أشكال العنف من ضرب كما ترين بقع الضرب في جسمي وجسم أختي, فهو يقوم بقطع المياه علينا, لذا نضطر إلى نقلها بالطناجر من الجيران, وقطع الكهرباء, ولا يصرف علينا, ويضرب أمي المريضة بالسكر, رغم أنها مطلقة منه, وأخوتي يصرخون في وجهها, ولولا الحياء لقاموا بضربها, لأنها تدافع عنا, ولأننا نعيش في بيت مكون من غرفتين وحمام ومطبخ مساحته خمسون متراً, كان قد كتبه لها والدي بعد أن قام ببيع ذهبها, هو يتمنى أن يرجع له البيت, فهو لا يرغب بامتلاك أمي له ".
توجهن لطلب المساعدة
وعن سبب الكدمات والضربات التي تلون جسد " ن " قالت:" نحن لجأنا إلى مركز الأبحاث والاستشارات القانونية للمرأة لمساعدتنا والنظر في قضيتنا من خلال وحدة الاستشارات, فتقدمنا بطلب شكوى بسبب رفض أبي لكل من يتقدم لخطبتنا وتهديده لعائلاتهم, والتي جعلت العديد من المتقدمين لنا أن يتراجعوا لخوفهم على أنفسهم, فقمنا برفع قضية " عضل ولي " وهي أن والدي لا يرغب بتزويجنا بسبب الميراث, وتقبلت المحكمة هذه الدعوى ونجح المركز في كسب القضية لصالحنا, من أجل تزويج أختي الثالثة من ابن خالي, الذي عمل المستحيل ووقف إلى جانبنا في المحاكم, وصبر على ما تعرض له من تهديد ووعيد من والدي وأخوتي, فهم قاموا بتهديد خالي وابنه حتى القتل ما لم يتنازلوا عن القضية وعن طلب ابنهم للزواج من أختي, لكنهم أصروا على طلبهم, وقام قاضي القضاة بالسؤال عن ابن خالي, من خلال جهات معينة, وبعدها تم عقد القرآن في المحكمة واعتبار أن القاضي هو والي أختي ".
الأب غير راض
هذا التصرف لم يرق لوالد البنات وأخوتهن, واعتبروا أن ما فعلنه البنات الثلاثة هو تمرد على واقعهن, ولجوؤهن للقضاء هو بمثابة جرم ارتكبنه, ويجب أن يحاسبن عليه, فأتي الوالد الذي لا يزور البيت إلا لضربهن كما إخوتهن, وقام هو وواحد من أبناءه بضرب " ن " بعصا كبيرة, قائلة :" أخذ أبي بعصا وأخي بعصا أخرى إحداهن عصا مشطاح خشب كبيرة, والأخرى عصا مكنسة, انهالت عليا الضربات لأني قلت بأن هذا هو حقنا, وأن أختي لم ترتكب خطأ, لماذا تبقى مثلنا تصل إلى سن الثلاثون وهي لم تتزوج رغم أن هناك من يرغب بها, في حين أنني كنت أردد بأنني أريد أن أحضر فرح أختي, وهذا من حقي, أختي قررت بعد أن عقدت القران أن تهرب من المنزل وتذهب للعيش في بيت أخوالي لحين العرس, خوفاً على نفسها, فمن الممكن أن يقوموا بقتلها ".
" ن " لم تستطع السيطرة على نفسها وهي تتحدث معي, أرى الحزن والغل يملأ قلبها, متسائلة :" أليس من حقي أن أكل وأشرب وألبس وأتزوج وأستقر في أسرة مثل الفتيات الأخريات, ألا يكفيهم أنني مسجونة في بيتنا, لم أغادره إلا لزيارة خالاتي, فأنا لا أستطيع الخروج لأن والدي يسكن مع زوجته الأخرى أمام منزلنا الصغير, ويراقب كل تحركاتنا ".
تقرير خروج فقط
وتكمل:" بقي مغمى عليا ثلاثة ساعات متواصلة ويدي تنزف, لأنني تلقيت فيها ضربة حين كنت أحمي وجهي, وأمي وأخواتي يصرخن, والجيران أصبحوا متعودون على هذا المشهد إلى أن اتصل أحد الجيران بسيارة الإسعاف والشرطة, وصحوت على نفسي وأنا في مستشفى الشفاء, والدكتور يقول لي هذا اعتداء فخفت أن أبوح له بالحقيقة وبأن أريه جسمي, فبعث بممرضة وكشفت علي, وأخبرت الطبيب بأنه اعتداء, فأتي لي يسألني بأن يكتب لي تقرير بالحادثة فأجابته بنعم, ولكن أخي الكبير كان متواجداً معنا وقال له لا تكتب تقرير وهذا خلاف عادي بين والدي وأختي, ويجب أن تسوى الأمور بيننا, فاستجاب الطبيب وقام بإعطائنا تقرير خروج من المستشفى وانتهى الأمر ".
في الطريق تفاجأت " ن " بأن الشرطة في الحي الذي تسكنه, قامت بسجن والدها وأخيها الذي قام بضربها, فما كان من أخيها إلا أن طالبها بالذهاب في ذات الحين إلى مركز الشرطة للإفراج عن والدهم وأخيهم, وفعلاً هذا ما حدث وخرجوا من السجن موقعين على تعهد بعدم التعرض لها, " أنا كنت حينها خائفة منهم, لأنني بين أيديهم, قررت التنازل وعدم تصعيد الموقف لخوفي, ولأنهم يبقون والدي وأخي, ماذا أحكي وماذا أقول من يجب أن يقوموا بحمايتي هم من يضربونني, أخي حينما عاد إلى البيت قال لي بالحرف لو نمت الليلة في السجن لولعت الدنيا وولعت البيت فيكن ".
معاناة أخرى
" م . ف " أختها الثانية وتبلغ من العمر ( 33) عاماً لا يختلف حالها عن أختها السابقة, تعاني من الممارسات ذاتها, ومن العنف مثلها مثل أخواتها الأخريات, أنهت دراسة المرحلة الإعدادية فقط, " م " هي من وقفت في وجه أبيها وأخيها, حين كانت تنهال الضربات على " ن", حاولت أن تتلقى بعضاً منها لتخفف عن أختها وجعها, وأيضاً كانت تردد:" أختنا لم ترتكب فاحشة, هي ارتبطت بابن خالها على سنة الله ورسوله وبشهود القضاة والمحكمة ", فكان لها ما كان لـ " ن ", واجتمع الأب والأخ في ضرباتهما على البنتين اللاتي لا حول لهن ولا قوة, ما لهن من أحد يحميهن أو يقف إلى جانبهن, فالجميع في الحي يعرف هذه العائلة ويعرف مدى قسوة هذا الأب والأخوة, أي لا يستطيعون فعل أي شئ تحت مسمى أنه الأب, وسلطته تشرع له ما يفعل, فهم بناته ولا أحد له أي شأن في حالهم.
دور القضاء
محامية المركز هنية كريزم حاولت مساعدة هؤلاء الفتيات فقامت بتوضيح ما جرى في المحكمة قائلة :" حاولنا التدخل لحل المشكلة بالود لكن الأب رفض, وتشبث برأيه وهو عدم تزويج البنات, بسبب الميراث وبسبب ما قال عنه غيرتي على بناتي, فاضطررنا أن نلجأ للمحكمة, فقمت برفع دعوى " عضل ولي " كي نستطيع إجبار الأب على تزويج بناته خاصة في ظل وجود من يرغب بالزواج منهن, وتبنت المحكمة هذه القضية, وتم إرسال بلاغ للأب عدة مرات, وفي كل مرة تخرج زوجته الثانية وتقول للشرطي بأنه غير موجود, وأنها لا تريد استلام البلاغ, إلى أن استطاعت الشرطة إيصال البلاغ له عبر أشخاص يعرفونه جيداً, وقدم إلى المحكمة وسأله حينها القاضي أتريد أن تزوج ابنتك, فرد أنا لا يوجد لي بنات, أخوتها هم من يقرروا فإذا وافقوا على الزواج فلتزوجوها, مع العلم أن كافة الأخوة مهددين من والدهم في حال وافقوا على الزواج أن يحرموا من الميراث, فجميعهم رفضوا هذا الزواج ".
متابعة:" بعد عدة جلسات ومشاورات أمر القاضي بإتمام إجراءات الزواج, ومن ثم استلمنا الكتاب, وتوجهنا للمحكمة لعقد قرآن الفتاة على ابن خالها, على أن القاضي هو والي الفتاة ".
وفي موضوع أخر أضافت كريزم بأن الأب لا يصرف على بناته, وأنها قامت برفع قضية نفقة, لأن الأب مجبر على دفع نفقة من المال تخصص لهن كي يستطعن العيش وتلبية احتياجاتهن, لكنها لازالت حتى هذه اللحظة لم تنفذ, بسبب تهرب الأب من الشرطة في كل مرة يذهبون فيها لتسليمه بلاغ بالقضية.
وأخيراً ... لا تحلم " ن ", " م ", بحياة رغيدة ومرفهة, هن يحلمن فقط بأن ينعمن بالأمن والاحترام داخل بيتهن, كل ما يطالبن به السماح لهن بالاستقرار وبناء أسرة بسيطة أسوةً بإخوانهن الذين يتمتعون بحب ورضا والدهم
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر