واشنطن ـ وكالات
تعتبر مشكلة التمييز في معاملة الأبناء من أكثر المشكلات التي تؤثر سلبيا على صحة الطفل النفسية التي قد تلازمه طوال حياته، وتعتبر مشكلة عالمية يعاني منها الأبناء مهما اختلف الجنس أو العرق أو الحالة الاجتماعية حتى في الدول الصناعية الكبرى. وعلى الرغم من زيادة الوعي بالآثار النفسية لهذا السلوك فإن الكثير من الآباء ما زالوا يمارسون التمييز بين أبنائهم لسبب أو لآخر.وتتناول الكثير من الدراسات النفسية الآثار المدمرة لهذه الظاهرة، ومن أحدثها دراسة كندية طويلة قام بها باحثون من جامعة تورنتو وجامعة ماكستر ونشرت في مجلة تنمية الطفل (journal Child Development)، أشارت إلى أن معاملة أحد الأطفال بشكل سلبي وتمييز طفل عن آخر لا ينعكس بالسلب على الطفل الذي يعامل بشكل سيئ فقط، ولكن تمتد آثاره حتى بقية الأطفال في العائلة. ورصدت هذه الدراسة أيضا أن الآباء الذين يتعرضون لضغوط نفسية هم في الأغلب يميلون إلى معاملة الأطفال بشكل مختلف بعضهم عن بعض.تحليل أسباب التمييز
* كانت معظم الدراسات السابقة قد ركزت على الأثر السلبي للمعاملة المختلفة على الطفل الذي يعاني من التمييز، ولكن هذه الدراسة تناولت بقية الأطفال، وأيضا محاولة تفهم الأسباب التي تؤدي بالوالدين إلى مثل هذه التصرفات. وتناولت بالتحليل 400 عائلة كندية لديهم أطفال تتراوح أعمارهم بين عامين وخمس سنوات.
الجديد في الدراسة أنها لم تتناول طفلين فقط، وتلاحظ إذا كان أحدهما يحظى بمعاملة مختلفة عن الآخر، ولكنها تناولت حتى أربعة أطفال في العائلة الواحدة، مما سمح لها بملاحظة سلوك التفاعل النفسي لجميع أفراد العائلة وكل طفل في العائلة على حدة. واعتمدت على ملاحظات الأمهات عن أطفالهن وكذلك ملاحظة سلوك الأطفال في المنازل.
واهتمت الدراسة أيضا بشكل خاص بالأم. وقام الباحثون بجمع المعلومات عن تعليم الأمهات، وإذا ما كن انحدرن من عائلات سوية أو عانين من ضغوط نفسية مختلفة. وتم رصد التأثير التراكمي للكثير من عوامل الخطورة التي تتمثل في الضغط (التوتر) النفسي (stress) الذي تتعرض له الأم سواء في الماضي أو في الوقت الحالي، مثل أن تقوم الأم بتربية الأبناء بمفردها، أو أن تعاني الأسرة من صعوبات مادية، أو تعرض الأم للإهانة أو الضرب من الأب، وغيرها من الضغوط النفسية، وتبين أنه كلما تعرضت الأم لعدد أكبر من الضغوط زادت احتمالية أن تفرق في المعاملة بين أولادها أكثر من غيرها من الأمهات التي تتعرض لضغوط نفسية أقل.
وأشارت الدراسة إلى أن الأمهات اللاتي عانين من ضغوط متزايدة أظهرن اختلاف كبيرا في المشاعر بين طفل وآخر حسب طبيعة الطفل، بمعنى أنه من المنطقي أن الأم التي تعاني من ضغوط نفسية لا تتحلى بالصبر الكافي مع الطفل المشاغب وقد تلجأ إلى تعنيفه. ويمكن أن تستخدم الإيذاء البدني أو الصراخ في وجهة أو ما إلى ذلك، بينما لا يحظى الطفل الأكثر هدوءا بمثل هذا الإيذاء سواء النفسي أو البدني، مما يشكل فجوة كبيرة في المعاملة، ويؤثر بالسلب على الأطفال جميعا. وإن زيادة عوامل الخطورة بالنسبة للأم ارتبط بوجود مشكلات نفسية مثل العدوانية ونقص التركيز والمشاعر المضطربة حتى لبقية الإخوة الذين لم يتعرضوا للتمييز أو للأخ الذي حظي بتمييز إيجابي.
وهذا الأمر قد يبدو غريبا، ولكنّ الباحثين أرجعوا ذلك إلى أن الأخ الذي يحظى بالتمييز الإيجابي يمكن أن يشعر هو الآخر بالذنب نتيجة للتعامل غير العادل، ويكون الاضطراب في السلوك بمثابة نوع من الاعتراض على مثل هذه المعاملة وإرسال رسالة لا شعورية إلى بقية الإخوة أنه لم يشارك في التمييز ضدهم، وبالتالي فإن الأم المضطربة نفسيا يمكن أن تمهد إلى بث المشاعر السلبية بين أفراد الأسرة جميعا.
عوامل مختلفة
* وأوضحت الدراسة أيضا أنه إذا كان هناك بعض الظروف التي تضطر الآباء إلى الاهتمام بطفل أكثر من الآخر لأسباب مختلفة تبعا لعدة عوامل مثل عمر الطفل. وعلى سبيل المثال يمكن أن يفضل الآباء الطفل الأصغر في السن عن الطفل الأكبر وقد يكون هذا التفضيل نظرا لطبيعة الطفل الصغير واعتماده بشكل شبه كامل على الأم، ولكن يجب في هذه الحالة أن تقوم الأم بشرح مبسط للطفل الأكبر في السن عن ضرورة توفير الرعاية للأخ الأصغر حتى يتسنى له أن يكبر ويصبح مثل أخيه وبذلك يتم الاستبدال بالمشاعر السلبية مثل الغيرة والشعور بعدم الاهتمام، مشاعر أكثر إيجابية مثل العطف والاهتمام بالأخ الأصغر، وأيضا في الحالات الاستثنائية مثل أن يكون الطفل الذي يتم تمييزه يعاني من مرض مزمن يستدعي اهتمام الوالدين وتفضيلهم.
وأشارت الدراسة إلى أن الأطفال يمكنهم التفهم في حالة وجود الدافع الحقيقي، ولكن يحدث العكس في حالة عدم وجود دوافع قوية للتمييز يمكن أن يتم شرح الأمر للأطفال بشكل مبسط بأن هذا الأخ يحتاج إلى رعاية أكثر نظرا لهذا الظرف الاستثنائي.
نتائج سيئة
* ومن المعروف في الطب النفسي أن مشكلة التمييز في معاملة الأبناء تؤدي إلى النتائج النفسية السلبية من خلال ما يسمى بنظرية المقارنة المجتمعية (social comparison theory). وتتلخص هذه النظرية ببساطة في أن تمييز الآباء لطفل عن الآخر يجعل الطفل الذي يعامل بشكل سلبي يفقد الثقة في نفسه ويبدأ في مقارنة نفسه بالآخرين (بقية الإخوة)، ويشعر بأنه أسوأ من إخوته، وذلك انعكاس للمقارنة الأصلية التي يقوم بها الآباء بتمييز طفل عن الآخر سواء بوعي أو من دون وعي. وعموما فإن الطفل يمكن أن يتعايش بصعوبة مع المقارنة خارج المنزل بينه وبين إخوته، ولكن المقارنة داخل المنزل تشعر الطفل بالإهمال وعدم القيمة وتحطم ثقته بنفسه. وهؤلاء الأطفال معرضون أكثر من غيرهم للانخراط في العادات السيئة عن بلوغهم فترة المراهقة مثل التدخين أو شرب الكحوليات أو إدمان المخدرات، ويمكن أن يتورط في نشاطات إجرامية مثل السرقة، ويلجأ إلى التحايل والخداع ويمكن في بعض الأحيان محاولة الانتحار.
ويجب على الآباء أن يستوعبوا أن لكل طفل شخصية تختلف عن الآخر وليس بالضرورة أن يكون الإخوة متشابهي الطباع وأن اختلاف الشخصية لا يجب أن يترتب عليه تمييز في المعاملة، وعلى سبيل المثال في حالة وجود طفل هادئ الطباع وآخر موفور النشاط يمكن للأم أن تتفهم طبيعة الاختلاف ولا تعاقب الطفل موفور النشاط إلا في حالة فعل الخطأ (بمعنى أن لا يتم عقابه لمجرد أنه كثير الحركة أو الكلام مقارنة بالطفل الآخر)، ويتحتم على الأم أن تظهر الحنان والرعاية بنفس القدر من التساوي لكل أطفالها، وأن لا تلجأ إلى أسلوب المقارنة باستمرار حتى ولو على سبيل التحفيز (مثل مقارنة الأداء الدراسي لطفل بالنسبة للأخ الآخر).
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر