يُعدُّ مصطلح التعلم النشط من المصطلحات التي شاعت كأحد الاستراتيجيات العلمية لإعادة التوازن المفقود بين المعلّم والمتعلم، والذي يستجيب في الوقت نفسه لعوامل أخرى متعددة زادت من ضرورة استخدام هذا النوع من التعلّم، كما يُعدُّ أحد المهارات الأساسية المهمة للتعلّم الفعّال المرجو في مجتمع يهدف إلى التعلّم المستمر، ومواكبة التقدم العلمي والتكنولوجي.
والتعلّم النشط كأسلوب تعلّم مارسه الإنسان منذ أن وُجد على ظهر الأرض، واستمر على مرِّ العصور، فالمتأمل لحياة الإنسان يجد أنه سعى لاكتساب الكثير من المعلومات والمعارف والمهارات اللازمة لأمنه وبقائه واستمراريته من خلال نشاطاته واستقصاءاته ومحاولاته الفردية والجماعية لاكتشاف العالم المجهول المحيط به، بما يتضمن من ظواهر ومشكلات.وإن المتأمل في الفكر التربوي الإسلامي يجد أن هذا الفكر زاخر بفكر وتصور تربوي متكامل شامل، يتضمن القواعد والأسس والمبادئ والنماذج والمواقف التربوية التي تصلح لكل زمان
ومكان. فلقد كان للتربية الإسلامية دورها البارز في تطور الفكر التربوي، وقد أضاف علماء التربية الإسلامية إضافات كثيرة إلى مجال التربية والتعليم، وفطنوا إلى كثير من أسس التربية، وكشفوا عنها برأيهم واشتغالهم بالبحث والتقصي والتجربة، وبسطوا هذه الآراء الناضجة، وانتفعوا ونفعوا بها في مجال التربية والتعليم.
فالتعلّم النشط وأسسه واستراتيجياته لم يكن بعيدًا عن مبادئ واهتمامات التربية الإسلامية، ومصادرها الرئيسة المتمثلة في القرآن الكريم والسنة النبوية. ويظهر اهتمام الإسلام بالتعلّم النشط بدعوته للمسلم من خلال النصوص الكثيرة إلى طلب العلم واستغلال المعارف البشرية في شتى المجالات التي تساعد الإنسان المسلم على فهم ما يحيط به وتطويره وتسخيره لخدمة الرسالة التي خُلق الإنسان من أجلها، سواء أكان هذا العلم دينيًا أم دنيويًا، نظريًا أم تجريبيًا، فرض عينٍ كان أم فرض كفاية، بل والسفر لاكتسابها أحيانًا،. فعن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :” من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة” (سنن ابن ماجة، 1995م، ح223، المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، صحيح، ص81).
وقد ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة الكثير من المواقف التعليمية التي يظهر فيها السؤال والاستفسار، والحوار والمناقشة، والتعلّم الذاتي، وتعلم الأقران، والتعلم التعاوني، والحث على التجربة في العلم والمعرفة، وغيرها من المواقف التعليمية التي تحث المسلم على العلم والتعلّم النشط والتفكُّر في مخلوقات الله، وتحثه على استخدام طاقاته في اكتشاف هذا الكون الواسع الذي هو من بديع صنع الله ـ عزَّ وجلَّ ـ ومن أمثلة ذلك: قوله سبحانه تعالى: (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم) ( سورة البقرة، الآية:260). طلب نبيُّ الله إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ من ربه أن يريه ببصره كيف يحيي الموتى، سأل الخليل عن الكيفية مع إيمانه الجازم بقدرة الله لأنه قد تيقن ذلك بخبر الله ولكنه أحب أن يشاهده عيانًا ليحصل له مرتبة عين اليقين. فقصة إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ إقرار من القرآن الكريم على مشروعية الحوار والمناقشة والتعلّم الذاتي والممارسة العملية (التجريب) التي يتعلم المسلم من خلالها بنفسه، كما أنها تدل دلالة واضحة ومباشرة على مشروعية وأهمية التعلّم النشط للفرد في تحصيل العلوم والمعارف واكتساب المهارات وتنمية الاتجاهات، حيث إن المعرفة التي يبذل الفرد جهدًا ونشاطًا في سبيل الحصول عليها هي التي تُحدث التعلّم الحقيقي.
اقرأ أيضًا:
ماهي مجتمعات التعلم المهنية؟
كما أن في الحديث الذي رواه مالك بن الحويرث ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: “ارْجعوا إلى أَهلِيكم، فعَلِّموهم ومُرُوهُم، وصَلُّوا كما رأيتُموني أُصَلِّي” (صحيح البخاري، 2010م، ح6008، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، ص971)، ما هو إلا أساس لما يسمى بالتعلّم القائم على الملاحظة أو التعلّم بالنمذجة حاليًا، ففي هذا الحديث أرشد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى محاكاته في الصلاة وهذا ما نجده جليًا في التعلّم النشط (التعلّم بالملاحظة أو التعلّم بالنمذجة)، فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كثيرًا ما كان يستخدم مثل هذه الأساليب النشطة وغيرها في الحلقات التربوية التي كان يعقدها لتربية أجيال المسلمين، وهي طرق تدفع بالمتعلم إلى المشاركة الفاعلة بالأسئلة والاستماع والفهم والتجريب والتساؤل عما لا يدركه من حقائق.ولقد استخدم المسلمون معظم هذه الطرق والأساليب النشطة ـ التي تنادي بها التربية الحديثة ـ في تعليم الكبار والصغار على مدى القرون السابقة، ففي القرن الهجري الأول، عندما اندفع المسلمون إلى خارج جزيرة العرب ليضعوا أساس الدولة الإسلامية الكبرى، أقيمت المساجد والمدارس والكتاتيب في كل مكان وصلت إليه الفتوحات الإسلامية، وفي هذه الكتاتيب والمدارس كان يُدَرّس أصول الفكر الإسلامي، ويُبَصّر الإنسان بما له وما عليه من حقوق وواجبات، وكان التعليم في معظمه يقوم على المناقشة والحوار، والتعاون، والتجريب، والمناظرة، وحل المشكلات، والعصف الذهني وغيرها.لقد أثَّرَتْ تعاليم الدين الإسلامي في المسلمين منذ الرعيل الأول لهم، فطفقوا يتعلَّمون ويعلِّمون،
وأَثْرَوْا البشرية بخلاصة فكرهم، الذي اعتمد عليه الغرب في كثير من الأحيان. ولعل الإمام الغزالي وابن سحنون والماوردي والزرنوجي وابن خلدون وابن عبد البر والخطيب البغدادي وابن الهيثم وابن حيان وغيرهم ـ رحمهم الله ـ من الأمثلة الرائدة التي نبهت إلى أهمية التعلّم النشط، وأشاروا إلى بعض الأمور المتعلقة به، بل ومارسوه في تحصيلهم واكتسابهم للعلم والمعرفة. فالمستقرئ لتاريخ التعليم الإسلامي عبر عصوره المتقدمة، يجد العديد من الطرق التدريسية والتي يمكن تصنيفها حاليًا ضمن قوائم التعلّم النشط، مثل: تهيئة البيئة التعليمية المناسبة، ومراعاة الفروق الفردية، وفهم طبيعة المتعلمين وأهدافهم من التعلّم، والاهتمام بميولهم وقدراتهم، وإثارة الدافعية للتعلّم، وحرية الاختيار، والنشاط الذاتي، والتدرج في التعلّم، والتعلّم بالملاحظة والتجربة، وتعليم الأقران، والتعليم المصغر، والتعلّم التعاوني، ومعرفة المتعلّم بمدى تقدمه (التقويم الذاتي). ففي الأدب التربوي الإسلامي عند هؤلاء المربين والمفكرين الكثير من الأفكار السديدة والقابلة للتطبيق والاستمرار، فهذا الإمام الغزالي يؤكد على أن التعلّم لا يكون جيدًا ومؤثرًا إلا إذا جاء عن طريق المشاركة والممارسة الفعلية للمتعلم بحيث يكون الهدف منه تكوين عادات سلوكية، وليس مجرد تلقين وحفظ للمعارف
.وألَّف الإمام الزرنوجي ـ رحمه الله ـ المتوفى سنة (591 هـ) كتابه “تعليم المتعلم طريق التعلّم” ليدل عنوانه على ما تنادي به النظريات الحديثة من تعليم المتعلم كيف يتعلم، فالأصل في التعلّم عنده ـ أي الإمام الزرنوجي ـ أن يتعرف المتعلم طرق التعلّم وأساليبه، ليصبح معلّم نفسه. ولا شك أن المتعلّم إذا اكتسب منهجية التعلّم وطرقه، سوف يساعده ذلك على التعلّم مدى الحياة وبشكل فعال. كما يُعدُّ كتاب الإمام الزرنوجي ـ رحمه الله ـ أول كتاب في طرق التدريس يتحدث عن التعلّم النشط وآدابه وأساليبه ويجمع بين النظرية التربوية التطبيقية وبين الرؤية التعبدية الشرعية بصورة متجانسة مندمجة تجسد التكامل الحقيقي بين الجانبين الإيماني والسلوكي.
ودعا ابن مسكويه، وابن الطفيل ـ رحمها الله ـ إلى ترك المتعلم يتعلّم من خلال تفاعله مع البيئة الطبيعية، لأن هذا التفاعل يؤدي إلى اكتساب المتعلم خبرات عميقة وطويلة الأثر، مما يتيح مجالاً للمتعلم للاحتفاظ بها لمدة أطول.
وقد انتقد ابن خلدون ـ رحمه الله ـ الركود الذهني وانحدار مستوى التعليم في القرن الثامن الهجري، ونسب ذلك إلى رداءه الطرق في التدريس؛ لأنها أهملت الطرق النشطة في طريقة التعليم، فابن خلدون يرى أن الطرق النشطة، كالحوار والمناقشة والمناظرة والتجريب والتعلم الذاتي والتعلم التعاوني وحل المشكلات وغيرها من أفضل طرق التدريس في فهم العلوم واستيعابها والقدرة والتمكن من التعبير عنها، على عكس طرق الحفظ والتلقين التي تنتج أفرادًا ضيقي الأفق عقيمي التفكير
.لقد كان لمفكري الإسلام ومربيه الأوائل توجهات وآراء في التعلّم النشط والعوامل التي تؤثر فيه وتهيمن عليه، وهي توجهات لو طرحت الآن في صفحات الفكر التربوي المعاصر لدلَّت على سبق علمائنا ـ رحمهم الله ـ في مجال النظريات والدراسات التربوية، ولدلَّت على القيمة التربوية العالية التي يحملها التراث الإسلامي، وعلى الأصول والأفكار والمبادئ التربوية التي قلَّ منها ما لقي عناية المختصين في العصر الحديث.
قد يهمك أيضًا:
كيف نحمي أطفالنا من أخطار الانترنت ؟
كيف نساعد الطفل على عمل صداقات في المدرسة؟
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر